ف3: علمه وحكمته عليه السلام

كتاب امام الانسانية .. سيرة حياة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الصادر عن مؤسسة الامام علي بن ابي طالب (ع) للدراسات للتوثيق

2021.07.27 - 10:04
Facebook Share
طباعة

إن الخوض في بحر علوم أمير المؤمنين يحتاج لمجلدات ومجلدات، فهو باب مدينة علم رسول الله ومستودع أسراره، ووصيّه وكاتب وحيه، تعلّم على يد خير الخلق، وشهد له المتقدمون والمتأخرون باستفراده بأبوابٍ من العلم ما سبقه إليها أحد من العالمين. وسنتناول في هذا الفصل نماذج فكره وعلومه وفلسفته وحكمته البالغة.
 
أولاً- حكمته وعلمه (عليه السلام):
 
عندما تبحث في حكمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّك تجده ينهل من معين فيّاضٍ لا ينضب، وتجد نفسك أمام إنسان لا يتّصف بالحكمة وبعد النّظر فقط، بل بعالمٍ حاز أهمّ شهادات العلم على مرّ العصور، فهو إمام المدارس الفلسفيّة كافّة، ويصعب أن تجد عالماً لم ينهل أو يتطرّق لفكر وحكمة أمير المؤمنين، من ابن سينا إلى الخوارزمي مروراً بالفارابي وانتهاءً بالخيّام، وفي العصور الحديثة الإمام محمد الغزالي ومحمد عبده وجمال الدّين الأفغاني وعباس محمود العقاد وطه حسين، أما المفكرون الغربيون، فمنهم من قال عنه كريلفريد ماديلونغ: "لا أهتم بالطابع الايديولوجي او الاقتصادي وحتي التاريخي بفترة حكم الامام علي … ما يهمني هو شخصيته وما حملته من قيم ايجابيه او سلبيه هادفه او ضاره، وبلا شك فانه شخصيه عظيمه". أو كجيرارد اوبنز الذي قال عنه: "سيظل علي بن ابي طالب فارس الاسلام والنبيل الشهم"، أو ادوارد جيبون الذي قال: "شخصية فريدة متألقة شاعر ومؤمن ونبيل وقديس، حكمته كالنسيم الذي يتنفسه كل انسان فهي أخلاقية وإنسانية، منذ تولده وإلى وفاته كان حكيما، جمع تلاميذه وناداهم بإخوتي واحبائي، حقا كان هارون المتجدد صدّيق النبي موسى كما وصفه النبي محمد (ص)". وأكّد على تلك الحكمة الكامنة في شخصيّة الإمام (عليه السلام) الكاتب الكبير روبرت اوزبورن الذي ربط بين حكمته وهدفه النبيل الذي هو استمرار وحفظ الإسلام بعد النّبي (ص): "حُفظ الاسلام الحقيقي والذي نادى به النبي محمد علي يد علي بن ابي طالب". وربّما تكون شهادة الامم المتحدة بشخصيّة أمير المؤمنين في العام 2002 وأنّه مثال يحتذى للحاكم العادل، وقد جاء في تقريرها الذي أعدّه البرنامج الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان، والذي وُزّع على جميع دول العالم: "يحوي نهج البلاغة رسالة الإمام عليّ إلى مالك الأشتر، وفيها وصايا لكل حاكم عن نشأة الدول ودعم الحك، إن الأمم المتحدة – وبصفه عاجله – تنادى أمّة العرب أن يقرؤوها، ويطّلعوا عليها للالتزام بآدابها واعتبارها انموذجاً لهم". ولنا أيضاً في شذرات من تفاصيل توجيهاته للناس من حوله خير مثال على مدى حكمته، وبعد مراميه في شتّى المجالات، فقد سأل رجل مهموم مرّة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام"، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد أتـيـتك وما لي حيلة مما أنا فيه من الهم! فقال أمير المؤمنين: سأسألك سؤالين وأُريد إجابتهما، فقال الرجل: اسأل. فقال أمير المؤمنين: أجئت إلى هذه الدنيا ومعك تلك المشاكل؟ قال: لا. فقال أمير المؤمنين: هل ستترك الدنيا وتأخذ معك المشاكل؟ قال الرّجل: لا. فقال أمير المؤمنين: أمرٌ لم تأتِ به، ولن يذهب معك، الأجدر ألَّا يأخذ منك كل هذا الهم، فكن صبوراً على أمر الدنيا، وليكن نظرك إلى السماء أطول من نظرك إلى الأرض، يكن لك ما أردت، ابتسم... فرزقك مقسوم... وقدرك محسوم.. وأحوال الدنيا لا تستحق الهموم.. لأنها بين يدي الحي القيوم. ومن بالغ حكمته "عليه السلام"، أنّه قال: "يَحيا المؤمن بيَن أمرين يُسر وَعُسر، وكلاهما " نِعمة " لو أيقَن، ففِي اليسر يكون الشكر "وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ"، وَفي العسر يكون الصَبر "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
من شدّة افتتان المفكّرين بفكر وحكمة أمير المؤمنين (عليه السلام) قال عنه الشخ الرئيس ابن سينا: "عليّ بين الناس كالمعقول بين المحسوس"، وقال نصير الدين الطوسي: "عليّ أعلم الناس بعد الرسول، وأعبدهم وأفصحهم، وأحكمهم رأيا، وأحفظهم لكتاب الله وإجراء أحكامه، وألصقهم بهديه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته وبعد مماته، ومحبته واتباعه واجبان، ورتبته مساوية لرتبة الأنبياء، وهو النبع الفياض الذي طالما اغترف منه المغترفون".
وقال الزمخشري: "ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حقدا وحسدا، وأولياؤه خوفا فظهر من بين ذين ما ملأ الخافقين[1]".
كان علي بن أبي طالب "عليه السلام" صاحب عقل منفتح على العلم، لازم رسول ملازمة الولد لأمّه، فكان ظلاً للنبي ومستشاراً ووزيراً، يسأل النبيّ (ص) عن كل ما أشكل عليه فهمه، فيعلّمه النّبيّ من علم الله المطلق، الأمر الذي لم يتسنى لبقيّة الصحابة، فقد قال "عليه السلام": {والله ما أنزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، إن ربي وهب لي قلبًا عقولا، ولسانًا سؤولًا} ([2]).
       مما يؤكِّد هذا المنهج عند أمير المؤمنين تحذيره من ترك العلم بسبب الحياء، فيقول في هذا الجانب: {ولا يستحي أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم}([3])، وفي رواية: {ولا يستحي جاهل أن يسأل عمّا لا يعلم }([4]).
          وتحصيل العلم عند أمير المؤمنين مفضّل على تحصيل المال لقوله عليه السلام) حين أوصى تلميذه كميل ابن بن زياد قائلاً: " يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ. وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو[5] عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ[6]، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَة[7].
مسألة الجبر والتفويض عند الإمام علي "عليه السلام":
          منذ مئات السنين تم العمل على أبحاث عن الإنسان إذا كان مخيّر أو مسيّر، ومازال النقاش إلى اليوم دون نتيجة واضحة، فكان جواب الإمام علي "عليه السلام" في سطرين فقط ليغني عن آلاف الصفحات والدراسات: "وَمِنْ كَلاَمِهِ كَلاَمٍ لَهُ "عليه السلام" لِلسَّائِلِ اَلشَّامِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ أَكَانَ مَسِيرُنَا إِلَى اَلشَّامِ بِقَضَاءٍ مِنَ اَللَّهِ وَقَدَرِهِ؟ فأجابه الإمام (عليه السلام): "وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لاَزِماً وَقَدَراً حَاتِماً، لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ اَلثَّوَابُ وَاَلْعِقَابُ وَسَقَطَ اَلْوَعْدُ وَاَلْوَعِيدُ، إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً، وَنَهَاهُمْ تَحْذِيراً، وَكَلَّفَ يَسِيراً، وَلَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً، وَأَعْطَى عَلَى اَلْقَلِيلِ كَثِيراً، وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً، وَلَمْ يُرْسِلِ اَلْأَنْبِيَاءَ لَعِباً، وَلَمْ يُنْزِلِ اَلْكُتُبَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً، وَلاَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً، ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ"([8]). السلام عليك يا سيّدي يا أبا الحسن، ما هذا العلم الإلهي؟ لقد لخّصت قصّة الوجود بأسطر، فالله سبحانه وتعالى لو أجبرنا لظلمنا، ولكان إرساله للرسل عبثاً وإنزاله للكتب باطلاً، فالأمر تخيير إذاً، وليس تسيراً، فالإنسان يختار أعماله ضمن مسيرة حياته، والله يسجلّها عليه ليحاسب بها في الآخرة، وغير ذلك من الأقوال باطل وفيه جهل كبير.
          تقول إزابيل بنيامين ماما آشوري، اليوم سنبحث أعظم حقائق عن أعظم رجالات الفكر الإنساني الذين تحدثوا في علي، حيث قالت : يقول "روجيه غارودي" إنَّ علي بن أبي طالب سبق العلم البشري، ولا اعتقد أن بشرا ينطق بمثل كلامه، فهو أوَّل من أدرك علم الذرَّة والقنبلة النوويَّة قبل البشريَّة بألف و400 عام، ومن لا يصدق، فأقول لمن يضحك من مقالتي من السادة أصحاب مقاعد الدكتوراه بالسوربون: انظروا إلى قول علي بن أبي طالب: "إذا تمكنت من فلق الذرة ستجد في قلبها شمساً"، الم نفلق الذرة انشطاريا في هيروشيما ونتجت قنبلة الشمس الحمراء؟ ويضيف "غوري" في موقع آخر، إنَّ العقل الأوربي اليوم إذا تساءل متى عرفنا الـ(0)؟ لن يجد جوابا قبل 400 عام، ولكن من المذهل أن تجد أنَّ أوَّل إنسان في تاريخ الفكر الإنساني اخترع الـ(0) واللانهاية؟ هو حاكم بلاد المشرق بعد محمد، الإمام علي بن أبي طالب، ويقول في ذلك أيضاً "بريتراند راسل" الفيلسوف وعالم الرياضيَّات البريطاني الشهير: إ"نَّ العقل البشري لا يُدرِك أنَّ رجلا عاش بالشرق قبل 13 قرناً، وحَلَّ معادلات الدرجة الثانية بطريقة الإتمام إلى مربع كامل، لمَّا قسم 17 جملاً على 3 إخوة! وعرض المسألة في كتابه "مذكراتي"، لتكونّ أوَّل ورقة بحث تثبت أنَّ علي بن أبي طالب حلَّ معادلات الدرجة الثانية قبل العالم بـ 800 عام، ويضيف "راسل": لما ابتكرنا علم التجزيئي والمقارنة الرياضي لنحلَّ المسائل إلى شكل بسيط، ونُعيد تركيبها ظننَّا أنَّنا أنجزنا قفزة بأوروبا، لن تلحق بنا الشعوب، وإذ بي أتفاجئ بذلك الرجل نفسه علي بن أبي طالب حاكم بلاد الشرق قاطبة، وقد حل مسألة أرغفة الخبز بالتثليث الدائري، وفي علوم دُعِيَت "بالهرمسيات"، وأوَّلها الكيمياء والخيمياء، كانت من إنتاج الإمام علي، والطب الروحاني، حيث وَصفه ابن سينا "الشيخ الرئيس" بصاحب أوَّل نهج طبِّي لدى العرب، وأبوقراط الشرق، وروت خادمة الإمام علي "عليه السلام" السيِّدة فضَّة عنه علوم الكيمياء، وعلوماً سَحرت الفكر البشري عرفت باسم حجر الفلاسفة، الذي حيَّر العلم حتى يومنا هذا.
وهو الذي قال في المنبرية[9] وهي مسألة رياضيّة بحتة، حلّها الإمام عليّ عليه السلام فوريّاً بتغيير بسيط في الفرضيّة دون المساس بالحقوق، فصارت سهلة الحل، وهذا الأسلوب الرّياضي لم يكن معروفاً في تلك البلاد مطلقاً، فمن أين أتى بالحلّ مولانا أمير المؤمنين لو لم يكن تتلمذ على يد خير أستاذ في الكون سيّدنا محمّد فنال بحقّ شرف الباب لمدينة علم لا يلجها أحد دونه.
 
ثانيّاً- تصدّيه للمسائل الغيبيّة:
 
وعلينا ألا ننسى تصديّ أمير المؤمنين للغيبيّات التي أشكلت وحيّرت الكثيرين غيره، فلمَّا سُئِل "عليه السلام" عن الساعة قال: "لقد سألتموني عن أمر لا يعلمه جبريل ولا ميكائيل، ولكن إن شئتم أنبأتكم بأشياء إذا كانت لم يكن الساعة([10]) كبير لبث، إذا كانت الألسن لينة والقلوب نيازك، ورغب الناس في الدنيا، وظهر البناء على وجه الأرض، واختلف الأخوان فصار هواهما شتى، وبيع حكم الله بيعًا"([11]).
      وهذه الإجابة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" شافية للسائل، بأن بيَّن له أن موعد الساعة لا يعلمه إلا الله وحده، ومن جهة ثانية فإنَّه لم يقتصر على مطلوب السائل فحسب، بل زاد على مطلوبه، بأن بين له أمارات الساعة الدالة على وقوعها. كما أنَّ هذه الإجابة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" عن موعد الساعة تشبه إجابة رسول الله "ص" كما في حديث جبريل، عندما سأله قائلًا: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها ([12]).
 ويُذكر أنّ ابن الكواء سأل الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام" عن البيت المعمور ما هو؟ فأجاب قائلًا: "ذلك الضراح في سبع سماوات، في العرش، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة"([13]).
          من مواعظ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" في مجال الغيبيات، ما قاله عندما شيع جنازة، فلما وضعت في لحدها عجَّ([14]) أهلها وبكوا فقال: ما تبكون؟ أما والله! لو عاينوا ما عاين ميتهم، لأذهلتهم معاينتهم عن ميتهم، وإن له فيهم لعودة ثم عودة، ثم لا يبقي منهم أحدًا، فاتقوا الله عباد الله، وجدوا في الطلب، وبادروا بالعمل مقطع النهمات، وهادم اللذات، فإنَّ الدنيا لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها، غرور حائل، وسناد مائل، اتعظوا عباد الله بالعبر، واعتبروا بالآيات والأثر، وازدجروا بالنذر، وانتفعوا بالمواعظ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيَّة، وضمكم بيت التراب، ودهمتكم مقطعات الأمور بنفخة الصور، وبعثرة القبور، وسياقة المحشر، وموقف الحساب، بإحاطة قدرة الجبار، كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها، وشاهد يشهد عليها بعملها { وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون }([15]) فارتجت لذلك اليوم البلاد، ونادى المناد، وكان يوم التلاق، وكشف عن ساق، وكسفت الشمس، وحشرت الوحوش، مكان مواطن الحشر، وبدت الأسرار، وهلكت الأشرار، وارتجت الأفئدة([16]).سار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" في موعظته السّابقة الخاصّة بالجنازة على منهج رسول الله (ص)، كما بين ذلك علي بن أبي طالب "عليه السلام" نفسه حين قال: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد([17])، فأتانا رسول الله ص، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة([18])، فنكس([19]) فجعل ينكث بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، وما من نفس منفوسة([20])، إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال رجل: يا رسول الله ! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاوة؟ قال: أما أهل السّعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى}([21]) ([22])
       وقال أمير المؤمنين عليّ "عليه السلام" في موعظته لرجل: "أيها الذام للدنيا، المعلَّل نفسه بالأمالي، متى خدعتك الدنيا أو متى اشتدمت عليك ([23])؟! أبمصارع آبائك في البلا؟! أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! كم مَرَّضت بيديك، وعَلَّلت بكفيك، ممن تطلب له الشفا، وتستوصف له الأطباء؟! لا يغني عنه دواؤك، ولا ينفعه بكاؤك"([24])، ومن حكمه العظيمة "عليه السلام" في هذا المجال: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"([25])، فالناس ماداموا في الحياة الدنيا فهم غافلون، وكأنَّهم راقدون عن الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، فإذا ماتوا انتبهوا من رقدة الغفلة، فندموا على ما فرطوا في جنب خالقهم، ولكن لا تنجيهم الندامة، ولا تنفعهم الملامة([26])، وهذه الغفلة نبه الله سبحانه وتعالى عنها في كتابه بقوله {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}([27]).
ولا ننسى حكمته البالغة التي يرددها القاصي والداني بكلّ لغات العالم، والتي تقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً[28]".
          وقال أيضاً: "أبلغ العظات النظر إلى الأموات"([29])، فأبلغ العظات التي تذكرنا بالموت وتجهّزنا له وللدار الآخرة النظر إلى الأموات، فمن رأى من الميت سكون الحركات، وانقطاع الأصوات، وانعدام النفس، وشحوب اللون، لا شك أن ذلك له أثر كبير في نفس المشاهد.
          وقال "ذكر الموت جلاء القلوب"([30])، فالقلوب تصدأ، وصدؤها من الغفلة وارتكاب المعاصي، وجلاؤها بذكر الموت، فإنه إن ذكره الغافل تنبه، وإن ذكره العاصي تاب وأناب، وإن ذكره المغتر بدنياه، كان دواءً لغروره. وقد أمر رسول الله ص بذكر الموت بقوله: "أكثروا من ذكر هادم([31]) اللذات[32]، يعني الموت"([33]).
مما يجب التنبه له في الدعوة إلى الغيبيَّات أنَّ حال الداعي بإيمانه بهذه الغيبيَّات له أثر كبير في المدعوين، فإنَّ الدمعة التي تذرف من عين الداعية من خشية الله سبحانه وتعالى، أبلغ تأثيرًا في قلوب المدعوين من كلمات وكلمات يلقيها الداعية نفسه في بيان العذاب، والتخويف من الحساب، وزهد الداعية في دنياه، ورغبته في أخراه، أبلغ في دعوة الناس لإيثار الآخرة على الدنيا {بل تؤثرون الحياة الدنيا. والآخرة خير وأبقى}([34]).
ومن الحوادث الغيبيّة الثابتة التي تحدّث بها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ما قاله في حقّ مروان بن الحكم حين عفا عنه بعد موقعة الجمل، إذ قال: "أَفَلَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمانَ؟ لاَ حَاجَةَ لِي في بَيْعَتِهِ! لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسُبَّتِه،أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ، وَهُوَ أَبُو الْأَكُبُشِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَتَلْقَى الْأُمَّة مِنْهُ وَمِنْ وَلَدِهِ يَوْمَاً أَحْمَرَ![35]".
 
ثالثاً - الإمام علي "عليه السلام" والسياسية والمشورة:
 
          تعلّم الإمام (عليه السلام) علومه عن الرسول "ص"، فكان وزيره من أوّل الأمر، مذ كان غلاماً بين يدي رسول الله، فقد نصّبه النّبيّ وزيراً له في وليمة بني هاشم، حتّى أنّ أبا لهب سخر من أبي طالب يومها قائلاً: "قد أمرك محمّد أن تسمع لابنك وتطيع[36]". ومن يومها وعليّ هو كاتب النبيّ، ومساعده، فهو الذي كتب القرآن كله بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطه بيده الشريفة[37]، وهو كاتب صلح الحديبيّة[38]، ورسائل النّبيّ إلى هرقل والمقوقس وكسرى. وقد أمره النّبيّ (ص) أيضاً بتبليغ أوامر شرعهِ إلى جميعِ العرب في موسم الحج، وأن يتلو عليهم أوائل سورة براءة[39]، ولا أدلُّ عليه أيضاً من كونِه "ص" بعثه إلى اليمن قائداً، فأسلمت همدان كُلَّها، وكثير من أهل اليمن على يديه دونَ حرب، وكان الشيخان "عمر وأبو بكر" يستشيرانه كثيراً في الأمور السياسيَّة، فقد أشار الإمام علي على عمر بأن لا يخرج لقتال الفرس حينما شاوره([40])، وقال له: كن في المدينة لتكونَ ردءاً للمسلمين، حتّى قال عمر: "لا أبقاني الله لمعضلة لا أبا حسن لها"([41]). وذكر الإمام الطبري أنَّ فارساً لمَّا تجمَّعُوا بنهاوند في جمع عظيم لحرب المسلمين جمع عمر الناس، واستشارهم في المسير إليهم بنفسه، فأشار عليهِ عامَّة الناس وبعض رجال الشورى بذلك، فأعاد استشارة الناس، فقام إليه عليّ "عليه السلام" فقال: "أمَّا بعد، يا أمير المؤمنين! فإنَّك إن أشخصت[42] أهل الشام من شامِهم، سارت الروم إلى ذراريهم، وإنَّك إنْ أشخَصتَ أهل اليمن من يَمَنهِم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنَّك إن أشخصت من هذه الأرض، انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارِها، حتى يكون ما تدعُ وراءك أهم إليك ممَّا بين يديك من العورات والعيالات، أقرّ هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرَّقوا ثلاث فرق؛ فرقةٌ في حرمهم وذراريهم، وفرقةٌ في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقةٌ إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لتكالبهم عليك، وأمَّا ما ذكرت من مسير القوم فإنَّ الله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنَّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر، فقال عمر: هذا هو الرأي كنت أحب أن أتابع عليه[43]".
وقال الإمام لبعض أصحابه حين استفسروا عن سب عودة جيش الإمام من صفّين دون النّصر: "واللهِ ما معاويةُ بأدهى منّي ولكنّهُ يغدرُ ويفجرُ ولولا كراهيةُ الغدرِ كنتُ مِن أدهى النّاسِ ولكِنَّ كُلَّ غدرةٍ فجرة وكُلَّ فجرةٍ كفرة ولكُلِّ غادرٍ لواءٌ يُعرَفُ بهِ يومَ القيامةِ واللهِ ما أستغفلُ بالمكيدةِ ولا أستغمزُ بالشّديدة[44]". إذاً فالإمام يرسي قواعد السياسة لا كـمعاوية أو ميكافيلي، بل كحاكم عادل حكيم، يعرف ما له وما عليه، لا يقدّم الغاية على الوسيلة، وإنّما يلتزم بالوسيلة من أجل الغاية.
هذا هو الإمام عليّ (عليه السلام) السياسيّ العظيم تلميذ مدرسة النبوّة الخالدة.
رابعاً- قضاؤه وعدله عليه السلام:
صفة العدل هي من أسمى الصّفات التي لازمت شخصيَّةَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام"، فاقترن اسمه بالعدالة، وعاش النّاس في أيّامه حقبةً لم تتكرر بعدها أبداً، حقبة ربّما لم تخطر ببال أفلاطون حين تصوّر المدينة الفاضلة. لقد كان حسّ المسؤوليّة هو هاجسه الأوحد، فلا ينام إلا قليلاً، يخشى أن يظلم أحدٌ في حكومته فيسأله الله تعالى عنه يوم القيامة، فهل فيمن توّلى الحكومة بعده من خطر له مثل هذا الخاطر؟
إن الحديث في قضاء عليّ وعدله له الكثير من الشواهد، وكيف لا وقد قال فيه الرسول (ص) "أقضاكم علي"([45]) والقضاء هو الفِقه، فهو إذاً أفقههم، وروي عنه (ص) أنَّه حين بعث الإمام "عليه السلام" إلى اليمن مبعوثاً وقاضياً، قال له: "اللَّهُمَّ اهدِ قلبُه، وثبِّت لسانه"، فهل يُشكّ بعدها في قضاءه وحكمه؟
لم يكن أحدٌ من صحابة رسول الله (ص) أفتى من عليّ، بشهادة رسول الله حين قال: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها". وهل مادّة الفتوى سوى العلم؟ لأنّ من أفتى بغير علمٍ ضلّ وأضلّ، لذلك قال عنه الخليفة عمر بن الخطّاب: "لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن[46]"، وعن ابن عباس، قال: "قال عمر: "أقرؤنا أبي وأقضانا علي"([47])، وعن سعيد بن المسيَّب قال: "كان عمر بن الخطاب يتعوَّذ من معضلة ليس لها أبو الحسن، يعني عليا"([48])، وكما شهد له بذلك حبر الأمّة ابن عباس حين قال: "إذا حدثنا ثقة عن علي الفتيا لا نعدوها"([49]) ، وكذلك قال ابن مسعود "عليه السلام" قال: "أقضى أهل المدينة علي" ([50])
ففي زمن الخليفة عمر ابن الخطّاب أيضاً، جاؤوه بامرأة قد ولدت لستّة أشهر، فهمّ بإقامة الحدّ عليها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلامإنّ خاصَمتك بكتاب الله خَصَمْتُك[51]، إن الله تعالى يقول:وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا[52]،ويقول جلّ من قائل:  وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة[53]،فإذا كانت مدّة الرضاعة حولين كاملين ، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان أقلّ الحمل منها ستّة أشهر"[54]، فخلّى عمر سبيل المرأة ، وثبت الحكم بذلك، فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنهم إلى يومنا هذا.
ومما أثر عنه (عليه السلام): "والله، لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً[55]، أو أجرَّ في الأغلال مصفّداً، أحب إليّ من ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام، والله، لو أعطيت الأقاليم السبعة، بما تحت أفلاكها، على أن أعصى الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته[56]".
وقد أولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" موضوع العدالة اهتماما كبيرا، يُستدلّ على ذلك من سلوكه العمليّ، ومن خلال عهوده ورسائله إلى ولاته، بل يمكن القول أنَّ كل أوامر ووصايا الإمام "عليه السلام" إنما تصب في مجرى أن يكون الحكم عادلا، لذا نجده يقول: "يجب على الإنسان أن يلزم العدل في ظاهر أفعاله، لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضميره لإقامة دينه"([57])، وإننا لنجد في سلوك الإمام وأقواله مصاديق متعددة لدولة العدل الإلهي التي أرادها.
          نستطيع أن نستشف سمات العدل عند الحاكم -كما يراها- الإمام عليّ "عليه السلام"، من رسائله إلى الولاة وخطبه ورسائله، وهو بذلك وضع الأسس الطبيعيّة لأي حكومة عادلة في أي عصر وزمان، وذلك قبل فقهاء القانون بقرون، وهي:
- إنصاف الحاكم من نفسه:
فقد شدد الإمام علي "عليه السلام" على عدالة الحاكم فعليه أن ينصف الناس من نفسه، ومن خاصة أهله، ومن له فيه هوى، وأنَّ من ظلم عباد الله كان الله له خصماً، وأنَّ الظلم سبب أساسي لتغيير نعمة الله وتعجيل نقمته، وفي ذلك يقول الإمام: "أَنْصِفِ اللَّهَ، وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ".
 - عدم استئثار الحاكم نفسه على الناس:
إن حكومة العدل الإلهي التي أسس لها الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام" تقضي بان لا يأخذ الحاكم (الوالي) لنفسه بشيء يزيد عمّا يأخذه بقية الناس فيما هم فيه سواء فيقول "عليه السلام": "وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ"([58]).
 -وجوب عدم المساواة بين المحسن والمسيء:
إنَّ من المتطلبات الأساسيّة لقيام دولة العدل الإلهي، كما يراها الإمام "عليه السلام"، وجوب عدم المساواة بين المحسن والمسيء، لأن ذلك يجعل أهل الإحسان يرون أن لا فائدة من الإحسان ولا يقبلون عليه، ويشجع أهل الإساءة على الايغال في الإساءة. يقول "عليه السلام": "وَلَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ".
- الاهتمام بالمعوزين والفقراء:
          أكَّد "عليه السلام" على الاهتمام بفقراء الدولة ومساكينها وذوي الحاجة وأهل الفقر الشديد وذوي العاهات، ممن لا حيلة لهم ولا قوة ولا مصادر للرزق وكذلك الأيتام وكبار السن ممن لا معيل لهم مما يجعل الحكم العادل لا يكتمل إلا بإنصافهم، وقال "عليه السلام": "وَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ، فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ"([59]).
 - وجوب حسن ظنّ الحاكم برعيته:
من صور العدالة التي أسس لها الإمام علي "عليه السلام" هي وجوب حسن ظن الحاكم برعيّته "الشعب"، حتى تسود الثّقة بينه وبينهم، وأن لا يكلف الحاكم مواطنيه إلا بالمقدار الذي بإمكان كل منهم الوفاء به وتأديته، وفي ذلك يقول: "وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ، مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤنَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا"([60]).
- عدم سفك الدماء دون مسوّغ شرعي:
إنَّ الإمام "عليه السلام" يؤكِّد على أنَّ سفك الدماء الحرام لا يقوّي السلطان وإنَّما يضعفه ويوهنه، بل إنَّه يحذر الحاكم حتى من القتل الخطأ الذي يمكن أن يحصل بغير قصد، ويوجب عليه دفع الدية لأولياء الدم، فقال: "إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، وَلَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ، وَلَا أَحرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"([61]).
- المشاورة والتعاون:
يشترط الإمام على الحاكم -كما في عهده للأشتر- بأن لا يدخل في مشورته البخيل الذي يعدل به عن الفضل، ويعده الفقر، ولا الجبان الذي يضعفه من الأمور، ولا الحريص الذي يزين له الشره بالجور، فيقول: "من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق بينهم".
- التواضع والاستماع إلى الرعية:
وهذه الملاحظة تنم عن معرفة دقيقة بالسياسة والحالة الاجتماعيَّة والنفسيَّة للمجتمع والناس، وأوصى الإمام ألا يكون سفيره إلى الناس إلَّا لسانه، ولا حاجب إلَّا وجهه، وإلا يحجب ذا حاجة عن لقائه به، وأكَّد على ستر عيوب الرعيَّة، ويقدِّم الإمام علي نصيحة إلى الولاة بالابتعاد عن الفخر والتكبُّر، والدعوة إلى النزاهة، والعلم.


[1] علي في الكتاب والسنة والأدب - الحاج حسين الشاكري - ج ٥ - الصفحة ٤٤١.
[2] - أخرجه ابن سعد في الطبقات 2 / 338، وأبو نعيم في الحلية 1 / 67 واللفظ له.
[3] - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 13 / 284, وأورده ابن الجوزي، صفة الصفوة 1 / 326, والسيوطي تاريخ الخلفاء صفحة 209, د. جابر قميحة، أدب الخلفاء الراشدين صفحة 280.
[4] - أبو نعيم، حلية الأولياء 1 / 76.
[5] يزداد.
[6] أجسامهم غائبة.
[7] نهج البلاغة، وصيّة أمير المؤمنين لكميل بن زياد.
[8] - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، الجزء 9, ورواه باختلاف ابن أعثم الكوفي ت 314 - في الفتوح 4: 217، والكليني ت 329, في الكافي 1: 155 ح1، والشيخ الصدوق ت 381 في التوحيد: 380 ح 8، وعيون الأخبار 2: 127 ح 38، وابن شعبة ق 4 في تحف العقول: 468، والشيخ المفيد ت 413 في الإرشاد: 225.
[9]  فضائل الصحابة لاحمد: 2/534 ح‏888، تهذيب الاحكام9/257 ضمن ح‏970وص‏259 ح‏971، مناقب ابن شهراشوب: 2/44 45، الاختيار لتعليل المختار: 5/98، كشف الغمة: 1/132، عوالي اللالي: 1/450 ح‏182، وسائل الشيعة: 26/82 ح‏13و14، بحار الانوار: 40/159، مستدرك الوسائل: 17/201 ح‏2، قضاء امير المؤمنين(ع): 128 ح‏5، احقاق الحق: 8/80. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 19/1.
[10] - هكذا في الأصل، ولعل الصواب للساعة.
[11] - أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 15 / 164.
[12] - متفق عليه من حديث أبي هريرة عليه السلام: أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب التفسير 3 / 375. ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان 1 / 39، واللفظ له.
[13] - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5 / 29, وابن كثير في تفسيره 4 / 240.
[14] - العج رفع الصوت، الجوهري، الصحاح 1 / 327، مادة "عجج".
[15] - سورة الزمر، الآية 69.
[16] - أبو نعيم، حلية الأولياء 1 / 78, وابن الجوزي، صفة الصفوة 1 / 328.
[17] - بقيع الغرقد: أصل البقيع في اللُّغة الموضع الذي فيه أروم الشجر، من ضروب شتى، وبه سمي بقيع الغرقد، والغرقد: كبار العوسج، وهو مقبرة أهل المدينة، الجوهري، الصحاح 3 / 1187، مادة "بقع" والحموي، معجم البلدان 1 / 473.
[18] - هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه، ويدفع به عنه، ويشير به إلى ما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبًا للاتكاء عليها، ابن منظور، لسان العرب 4 / 242، مادة "خصر", وابن حجر، فتح الباري 11 / 496. 
[19] - الناكس: المطأطئ رأسه، الجوهري، الصحاح 3 / 986، مادة "نكس".
[20] - المنفوس: المولود، ابن منظور، لسان العرب 6 / 239، مادة "نفس".
[21] - سورة الليل، الآيتان 5، 6.
[22] - أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب التفسير 3 / 325.
[23] - يوجد في نهج البلاغة صفحة 687: أم متى غرتك؟ إبمصارع آبائك من البلى.
[24] - ابن كثير، البداية والنهاية 8 / 7.
[25] - محمد بن محمد العمري، مطلوب كل طالب من شرح كلمات عليّ عليه السلام "مخطوط"، ورقه 100، وجه 2.
[26] - المرجع السابق نفسه.
[27] - سورة ق، الآية 22.
[28] وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ١٧ - الصفحة ٧٧.
[29] - نثر اللآليء من كلام علي بن أبي طالب "عليه السلام" مخطوط، ورقة 50، وجه 2.
[30] - نثر اللآليء من كلام علي بن أبي طالب "عليه السلام" مخطوط، ورقة 52، وجه 1.
[31] - أي قاطع اللذات، لأنَّ الهذم بمعنى القطع، الجوهري، الصحاح 5 / 2056، مادة "هذم".
[32] - أي قاطع اللذات، لأنَّ الهذم بمعنى القطع، الجوهري، الصحاح 5 / 2056، مادة "هذم".
[33] - أخرجه الإمام أحمد في المسند 2 / 292, والترمذي في سننه واللفظ له، كتاب الزهد 4 / 553, والنسائي في سننه، كتاب الجنائز 4 / 4, وابن ماجة في سننه، كتاب الزهد 2 / 1422, وصححه الألباني في صحيح الجامع 1 / 387 برقم 1221.
[34] - سورة الأعلى، الآيتان 16، 17.
[35]  سبط بن الجوزي، تذكرة الخواص، ج1، ص78. ربيع الأبرار للزمخشري، ج1، ص 449. والكثيرون من الرواة.
[36] الكامل في التّاريخ، ج1، ص661.
[37] راجع التراتيب 1: 114 والمناقب 2: 226 والبداية والنهاية 5: 339 و7: 145 والكامل لابن الأثير 2: 312 والعقد الفريد 4: 161 واليعقوبي 2: 69 وابن أبي الحديد 1: 338 وفتح الباري 9: 22 وتاريخ الخميس 2: 181 والوزراء والكتاب للجهشياري: 12 والطبري 3: 173 وحياة الحيوان للدميري 1: 55 وبهجة المحافل 2: 161 والمفصل في أخبار العرب 8: 120 و131 والمعجم الكبير للطبراني 5: 114 وصبح الأعشى 1: 92.
[38] مسند أحمد ج4 ص298 والكامل في التاريخ ج2 ص204. وخصائص علي بن أبي طالب للنسائي ص150 /151 وفي هامشه عن تاريخ بغداد وعن سنن البيهقي ج8 ص5 وعن مستدرك الحاكم ج3 ص120 وعن مشكل الآثار ج4 ص173 وعن الرياض النضرة ج2 ص191 وعن فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج2 ص233 ـ 336.
[39] «المسند» (ج1 ص3 ط1 وفي ط2: ج1 ص156، ورواه ابن عساكر عنه في ترجمة «أمير المؤمنين من تاريخ دمشق» (ح882 ج2 ص383 ط 1، وروى الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» (ج1 ص231 ط بيروت). الحافظ أحمد بن حنبل في «الفضائل» ص44 ـ على ما في الاحقاق 3 / 428. ورواه أيضاً في «المسند» ج1 ص331 ط الاولى بمصر وج3 ص212 و283 وفي ج1 ص150 و175 ط الاولى بمصر وج1 ص3. والحافظ النسائي في «الخصائص» (ص28 ط النجف)، وكثيرون غيرهم.
[40] - نهج البلاغة: 2 / 29
[41] - المتّقي الهندي في كنز العمّال 5/832 ح 14508 9, وذكره الجرداني في مصباح الظلام: 2/56 ونقل عنه الأميني في الغدير: 6/173, وذكر في إرشاد الساري 3 / 195.
[42] جعلت أهل الشام يخرجون إلى لقاء فارس.
[43]  نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص29 ـ 30 وبحار الأنوار ج40 ص193 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص95 والميزان ج15 ص160 وتفسير الآلوسي ج18 ص207.
[44] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٠ - الصفحة ٢١١.
[45] - قال ابن أبي الحديد: «وقد روت العامَّة والخاصة قوله "ص": «أقضاكم عليّ» لاحظ شرح النهج ج ١ / ٢٣, كتاب كشف الغمَّة الجزء الأول، صفحة 263,
[46] تذكرة السبط: 87 , مناقب الخوارزمي: 58 , مقتل الخوارزمي 1 / 45، تاريخ ابن كثير 7 / 359 , الفتوحات الاسلامية 2 / 306.
[47] - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة البقرة 4211.
[48] - أخرجه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة 2/ 647, برقم 1100. 
[49] - أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 338، وابن عساكر في تاريخ دمشق 42/ 407.
[50] - الطبقات الكبرى 2/ 338, والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر إسلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام 4656.
[51] أي إن حاججتك بكتاب الله برّأت نفسها.
[52] سورة الأحقاف الآية 15.
[53] سورة البقرة الآية 233.
[54] إرشاد المفيد، ج1، ص206.
[55] أي أنام على فراش كلّه من الشوك فلا أستطيع الغفو.
[56] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١١ - الصفحة ٢٤٥.
[57] - شرح نهج البلاغة، ج17 صفحة 79, وورد في قاموس الحكم والأمثال: صفحة 43.
[58] - النهج، شرح ابن أبي الحديد 17, صفحة 81.
[59] - النهج شرح ابن أبي الحديد صفحة 61.
[60] - النهج شرح ابن أبي الحديد ج17 صفحة 34.
[61] - النهج شرح ابن أبي الحديد ج17 صفحة 79.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى