علي بن أبي طالب (ع) من الكعبة إلى النّجف : الحلقة الخامسة

2022.06.04 - 10:59
Facebook Share
طباعة

 في بيت خديجة وبحضور ابن عمّها الرّاهب الربّاني ورقة بن نوفل، شعشعت الأنوار المحمّديّة بين يدي أعمامه أبو طالب والعباس وحمزة والأسود من بني عبد المطلب، ومعهم عليّ كما وعد محمّد الأمين. ينظر الطّفل لخديجة وهي تبادله النّظرات والابتسامة. لم يدر أبو طالب يومها ما سرّ نشوة ابنه في خطبة ابن عمّه محمّد. لم يكن عليّ ليكتم ما دار في بيت أبيه بالأمس، فقال ببراءة الطّفل: "أحقاً يا خديجة أنّك خطبت ابن عمّي لنفسك"، حاول أبو طالب زجر ولده، غير أنّ ابتسام محمّد الأمين، وجواب خديجة بكلّ ثقة: "بلى يا علي"، أعاد الصّفاء للجلسة، كان ورقة يتأمل النّور في وجه محمّد وهو يسمع ابنة عمّه تكمل ما في جعبتها: "لست أوّل عربيّة تخطب لنفسها، ولا يكتمل حسب الشريفة إلا ببعل لها يزيدها شرفاً، ولي بابن عمّنا[1] محمّد الأمين أرب وغايات، فهو سيّد شباب قريش، وهو أعفّ وأطهر من أن يفاتحني بالزّواج، لذا قلت في نفسي اغتنمي فرصتك يا خديجة، فهذا الذي صنت له نفسك طوال العمر"، هزّ ورقة رأسه موافقاً على كلامها. ابتسم محمّد الأمين لها ووجهه يفيض نوراً وبشراً، ثمّ نظر لعمّه أبي طالب، الذي تنحنح وقال: "إذاً على بركة الله، نزوّج خديجة لإبني محمّد، وغداً سأولم لمكّة كلّها".

في ذات الليلة رأي عليّ رؤيا عظيمة حكاها لمحمّد الأمين: "رأيتك يا ابن العمّ مع خديجة، ورأيت نوراً ينبعث من رحمها، فسعيت إلى ذاك النور، فإذا به يحطّ على يديّ، من ثمّ انبعث منه أحد عشر قبساً فكانوا اثنا عشر ملأت أنوارهم المشرق والمغرب". نظر الأمين لعليّ، ثمّ ضمّه إليه وقبّل رأسه، وقال: "سيكون لك من صلبي نسب، تملأ أنواره هذه الدّنيا".
بعدما تزوّج الأمين، غدا عليّ ابنا روحيّاً له، لا يغادر بيت محمّد، وقلّما يبات في بيت أبيه أبي طالب، فغدا مع زيد بن حارثة يتزاحمان لخدمة الأمين وخديجة، يطيران في إثر الأمين إذا انطلق صوب الكعبة، كجناحي طير. غير أنّ الأمين لم يكن يسمح سوى لعلي بمرافقته إلى الغار، وكان يستهل[2] كل شهر هناك في الغار، يناجي الله وعليّ إلى جواره، حتّى إذا جاءهما زيد بالزّاد من خديجة، هبط إليه عليّ وتناوله منه.
الكلّ في مكّة ينتظر حدثاً مهمّاً، الكلّ يتحدّث عن نبيٍ موعود سيظهر بجوار بيت الله. كان أهل الكتاب يتغنّون بسيرته، فجاءت الكثير من عائلات أهل الكتاب واستوطنوا بجوار البيت طمعاً أن يكون هذا النّبي الموعود من أصلابهم، إذ كان من المستبعد أن يكون النبيّ من نسل الوثنيين من أهل قريش. حتّى أهل قريش ذاتهم باتوا يترقّبون هذا النّبي وما سيحدث مع ظهوره من تغيرات يتحدّث عنها أهل الكتاب، وكلّها جميلة وتبشّر بالخير، من إقامة للعدل وإعادة الاعتبار لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام.
وفي الليلة الموعودة من تاريخ هذا الكون، وبينما محمّد الأمين مستغرقٌ في تأمله، لا حظ عليّ ارتعاشاً يعتري حبيبه، خاف الطّفل وجمد في مكانه، أحسّ أن طاقة ما في المكان تخاطب محمّداً، ومحمداً يحاورها بوجل ما عهده في ابن عمّه. النّور مشعشع في المكان كأّنما الشّمس تسطع في الغار، ومحمدٌ يرتعش وسط الغار ويهمس كلماتٍ لها موسيقى ما سمع عليّ أجمل من جرسها: "اقرأ باسم ربّك الذي خلق*خلق الإنسان من علق*اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم*علّم الإنسان مالم يعلم[3]". لم يلبث محمّد أن خرّ مغشيّاً عليه، فهرع إليه عليّ بعدما زال تأثير تلك الطّاقة العظيمة من المكان. بدأ يوقظ ابن عمّه وقلبه يكاد ينخلع من صدره خوفاً من أن يكون أصابه مكروه. أخيراً فتح الأمين عينيّه بتثاقل، وقال مطمئناً الطّفل الذي كان ينتحب فوق رأسه: "لا تجزع يا عليّ أنا بخير، ساعدني فقط كي أنهض يا أخي". فعاجله الطّفل متسائلاً بلهفة: "فداك نفسي يا ابن العمّ، ما ذاك الذي زارك؟"، فأجابه الأمين بهدوء ووقار من وجد ضالّته بعد طول انتظار: "قم بنا يا أخي نعود لدار خديجة".
عند خديجة بدأ جسد الأمين يعاني القشعريرة وهو ينادي: "دثّروني[4] دثروني"، غطّوه بما لديهم من أغطية، ولكنّه لم يهدأ، فإذا بالطّاقة العظيمة تعاود الولوج إلى منزل خديجة، وتردد صوت الأمين من جديد: "يا أيّها المدّثر قم فأنذر[5]".

 


[1] يلتقي نسب النبي المصطفي مع خديجة في جدّهما المشترك قصي بن كلاب
[2] أي يذهب أوّل الشهر القمري إلى الغار.
[3] سورة العلق
[4] غطّوني بأغطية
[5] سورة المدّثر
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى