علي بن أبي طالب (ع) من الكعبة إلى النّجف : الحلقة الثالثة

2022.06.04 - 10:55
Facebook Share
طباعة

 كان محمّد مباركاً من يومه، تتبرك به قريش وتقدّمه في مجالسها، وتسمع لقوله، وتأخذ برأيه، إذا أتى البيت أُفسح له، وإذا استلم الرّكن خلّوا عنه، وإذا جلس يدعو أمام الكعبة أنصتوا وتهللوا. حياته حياة الرّهبان، زاهدٌ في الدنيا، راغبٌ فيما عند الله، صادقٌ إذا حدّث، وفيٌّ إذا عاهد، أمين إذا اؤتمن، يفخر به بنو عبد المطّلب على من سواهم، ويبالغون في الحرص عليه، ويكلّفون فتيتهم بمرافقته دائماً، كما أوصاهم عبد المطّلب بذلك على فراش الموت. فكان الحمزة مرافقه الشّخصي دائماً، وفي حال غيابه يتناوب الأسود بن عبد المطلب والعباس. يسأل أبو طالب عنه إذا غاب، ويرسل في إثره إذا ابتعد، ويأنس له إذا حضر. وفوق هذا كان محمّد حكيماً ذا رأي مصيب، فلم تنس له قريش يوم حقن دماء أبناءها حين اصطف بنوها للقتال كلّ بطنٍ في قريش يريد شرف تناول الحجر الأسود، لولا أن صاح بهم أبو أميّة بن المغيرة المخزومي: "هاؤم محمدا، حكّموه بينكم يحقن دماءكم"، فقالوا: "قبلنا وهو الأمين بيننا"، فقال لهم محمد: "هلمّ إليّ ثوباً"، فأعطوه ما طلب، فحمل الحجر ووضعه على الثوب، وطلب من كلّ كبير قومٍ أن يمسك بطرف الثوب فحملوه معاً وأعادوه إلى مكانه بذات الطّريقة[1].

بعد تلك الحادثة علا شأن ابن عبد الله بين القبائل، فهو الصّادق الأمين، وقد أصبح الحكيم الذي حقن الله به دماء قريش وأحلافها، فمسألة كمسألة شرف حمل الحجر الأسود لا يمكن أن تحلّ دون تلك الحكمة العظيمة التي تحلّى بها الشّاب العظيم.
في أحد الدّروب المؤديّة إلى الكعبة صادف أبو لهب ومعه أبو طالب والعباس محمداً الأمين يتبعه عليّ بن أبي طالب وهو ابن خمس اتّباع الفصيل[2] لأمّه، فبادرهم الأمين بالتحيّة، فتهللوا بوجهه الوضّاح كأنّه فلقة القمر في يوم التّمام. بادره أبو لهب بالسؤال: "ما بال محمدٍ لا يُجالسنا في دار النّدوة؟ ألسنا أهلك وعزوتك؟"، فأجابه أبو طالب: "دع عنك ابن أخيك يا عبد العزّى، فإنّ له أشغالاً دون أشغالك"، ابتسم الأمين لأبي طالب الذي كفاه مؤونة الإجابة، غير أنّ أبا لهب لم يكن ليتوقّف: "إنّك يا محمد لذو شأن عظيم في قريش، وإنّا لنعتزّ بك بيننا، فهلمّ بنا إلى القوم، نسامرك وتسامرنا". أجاب الأمين: "ما لي والسّمر يا عمّ، فإنّ لي في الحرم أشغال أُخر"، وهمّ بتركهم، لكنّ أبا لهب أمسك بطرف رداءه قائلاً: "واللات إنّك لتنأى بنفسك عنّا، وتعلّم ابن عمّك هذا طبعك"، وأشار إلى عليّ. تجاوزه الأمين حياءً ولم يرد، بينما أجاب عنه أبو طالب: "لحاك الله من سليط لسان، أما قلت لك دع عنك محمّداً فإنه في شأن غير شأنك"، فنظر أبو لهب إلى أخيه العباس معاتباً: "وهل أخطأت إذ قلت تعال معنا؟"، فأجاب العباس: "اسمع لأبي طالب يا عبد العزّى، فمحمّد يستحيّ من مجالس السّمر والشّراب، ويرى أن يناجي ربّه بفناء الكعبة في الليل خيراً من ذلك"، أشاح أبو لهب بوجهه الناحية الأخرى ممتعضاً، وقال: "ما وجدنا هذا في آبائنا، ولكن ما قولك في ابنك يا أبا طالب؟"، فتسائل أبو طالب: "وما به؟"، فأجاب أبو لهب: "إنّه يلازم محمّداً ليل نهار، فلا يلاعب صبيتنا، فلطالما دعاه ولداي عتبة ومعتب للعب في الحيّ، فيتركهما أوّل ما يلمح محمّداً يخرج من بيته موليّاً إليه". ضحك أبو طالب وقال: "ونعم المعلّم للصّغير". 
 
 
 

 


[1] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 2/ 324، 325.
[2] ابن الناقة.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى