علي بن أبي طالب (ع) من الكعبة إلى النّجف : الحلقة الرابعة

2022.06.04 - 10:57
Facebook Share
طباعة

 سكينة الليالي في مكّة المكرّمة كانت حافزاً للطفّل علي بن أبي طالب كي يتفكّر في ملكوت السماوات والأرض، وهو الذي يتابع ابن عمّه الأمين محمّد كيف يناجي رباً لا يراه أحد. تعلّم من معلّمه الأكبر أنّ الحجارة والأصنام لا تصلح للعبادة، فكان المكرّم وجهُه الذي لم يسجد لصنم، فقد طهّره الأمين من رجس الجاهليّة بنور اتّصاله بالخالق الذي لا يعرفه أترابه[1] وأقرانه. لقد بدأ رحلة التعرّف إلى الخالق باكراً مع الأمين محمّد، ولطالما لحق به إلى الغار يسمع مناجاته لإله عظيمٍ ما سمع إجلالاً لآلهةٍ من قبل كما سمع من ابن عمّه، فهفا قلبه لذاك الجليل العظيم، وازادت أواصر علاقته بالقدوة والمعلّم العظيم محمّد بن عبد الله.

يوم قرر محمّد الأمين السير في قافلة مكّة إلى دمشق بمال خديجة، وقف عليّ الطّفل ببابه باكياً، فرقّ قلب الأمين له، مسح دمعه وسأله: "ما يُبكي عليّاً"، فردّ الطّفل بأسى: "إنّه فراقك يا ابن العمّ". نظر إليه الأمين، وابتسم وقال: "والله ما كنت لأتركك لولا أنني أخاف عليك من مشقّة الطّريق وفراق أمّك وأبيك"، فردّ الطّفل: "ما لي من بعدك أبٌ ولا أمٌ". أدمعت عينا الأمين، فترك ما كان بيده من متاع يحزمه، وأقبل يضمّ الطّفل ويشّمه، وقال له: "أنت أخي يا علي، فأذن لأخيك أن يسافر في تجارته، ولا تحمّله مشقة فراقك محزوناً". استبشر الطّفل بما سمعه من حبيبه، وقبّل وجنتيه مبتسماً. نظر الأمين لعمّه أبو طالب وقال: "أوصيك خيراً يا عمّ بابنك هذا، فإنّ لنا سوياً شأنٌ عظيمٌ سيرفع اسمك بين الأنام". هزّ أبو طالب رأسه موافقاً، وودع ابن أخيه الذي امسك بزمام راحلته واتّجه إلى مكان تجمّع القافلة المغادرة.
مرّت الأيّام على الطّفل كأنّها سنوات، يسأل أمّه وأباه في اليوم مرّات عدّة: "متى يأتي محمدٌ"، ويجيبانه بما يصبّر قلبه على الفراق، إلى أن عاد البشير منادياً، "عير[2] قريش باتت على مسافة يوم وليلة من مكّة". طار الطّفل من الفرحة، أكلّ بشهيّة ما عرفها منذ غادر محمّد الأمين، وانطلق في اليوم التالي مع أبيه إلى مكان وفود القافلة لاستقبال العائدين.
قال عليّ لأبيه ولأخيه الفتى جعفر: "إنّي لأشمّ ريح محمّد يا أبتي"، نظر أبو طالب إلى ابنّه المتيّم بابن عمّه، ثمّ رمى بنظره خلف السّراب البعيد، فلمح خيالات الرّجال تبدو شيئاً فشيئاً، فعرف أنّ ابنه مصيبٌ فيما قال، وأسرّ في نفسه: "يا ربّ البيت، احفظ ولدي هذا من كلّ شرّ، ووفقه لأن يكون عوناً ووزيراً لمحمد فيما ينتظره". لم يكد أبو طالب ينتهي مما خطر له، حتّى رأي عليّاً ينطلق كالسّهم باتّجاه القافلة بحثاً عن محمّد الأمين، فصاح أبو طالب بجعفر: "إي ولدي، الحق بأخيك كيلا تدوسه الإبل". فانطلق جعفر في إثر أخيه كالباشق، لكن من يستطيع أن يلحق بعاشقٍ يركض باتّجاه معشوقه؟
يتحرّى الأمين محمّد بن عبد الله الأخيلة المقبلة من مكّة، فيجذب نظرَه طيفٌ ضئيلٌ يجري على الرّمضاء[3] باتّجاه العير. يترجّل الأمين عن راحلته، ويجري باتّجاه الطيف وهو يقول في نفسه: "كن عليّاً". خطواتٍ بدأت بالتسارع حينما سمع الأمين صوت الطّفل ينادي: "يا ابن العمّ، يا محمّد، يا نور عيني، أهلاً بعودتك يا صنو بيت الله الحرام، يا عزّ مكّة والعشيرة". لهث الطّفل بين يدي حبيبه الأمين حين احتضنه، وامتزجت دموعهما في مشهدٍ غريب على الصّحراء وصلف[4] رجالها. 
في تلك الليلة، فاتح الأمين محمّد عمّه أبا طالب بحضور أعمامه العباس والحمزة وأبو لهب عن نيّته بخطبة خديجة، فاستبشر الجميع بهذا إلا أبا لهب، إذ قال مستغرباً: "وهل خلت قريش من الفتيات حتّى نخطب لك امرأة تكبرك بعشر سنين؟"، تغيّرت معالم الأمين، فانتبه له أبو طالب، وصاح بأبي لهب مغاضباً: "قطع الله لسانك يا عبد العُزّى، ما تزال تزعج ولدنا محمّداً بكلامك، ما أراك إلا وقد سفّهك أبو الحكم بن هشام[5]، وطول صحبتك له". انزعج أبو لهب من كلام أخيه أبو طالب، فقام من فوره وغادر وهو ينفض رداءه في إشارة إلى أنّه لن يتدخّل في شأن محمّد الأمين بعد اليوم.
التفت حمزة إلى ابن أخيه، وقال له مطيّباً خاطره: "لا تلق بالاً لعمّك المخبول، فإنما هو ما زال يذكر أنّه تقدّم لخطبة خديجة قبلك ورفضته كما رفضت سادة مكّة كلّهم"، هنا تدخّل أبو طالب قائلاً: "أصاب حمزة والله، ونعم الخيار يا ابن أخي، غداً نطلبها لك على بركة الله، فاستبشر خيراً، وما أراها ترفض سيّد شباب مكّة، وقد ائتمنتك على مالها، فكيف تعزّ عنك شخصها؟". نظر الجميع إلى وجه الأمين ينتظرون جوابه، فعادت الابتسامة إلى وجهه ثانية، وقال: "أصبت يا عمّاه، أما والله ما كنت لأفاتحكم بأمرها لولا أنّها خطبت إليّ نفسها الليلة حين أدّيت لها مالها وما ربحته تجارتها، فقلت لها أنّي لا أرضى إلا وأن يخطبها لي سادة قريش من بني عبد المطلب". تهلل وجه الرّجال، واتّفقوا على زيارتها صبيحة اليوم التالي وخطبتها لابن أخيهم الأمين، فقال الطّفل عليّ: "فلتهنئ خديجة بك يا ابن العم، ولكن لي عندك طلب"، نظر الجميع لوجه محمّد الأمين الذي انفرجت ابتسامته بوجه علي، قائلاً: "قل يا علي، وطلبك مجاب"، فأجاب عليّ: "أريد أن أكون معكم غداً"، فأجاب الأمين: "والله لا أبرح دونك يا أخي".

 


[1] من هم في سنّه
[2] قافلة مؤلّفة من الجمال
[3] الأرض المحترقة بفعل أشعّة الشمس
[4] خشونة الطباع وانعدام الأحاسيس.
[5] أبو جهل
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى