علي بن أبي طالب (ع) من الكعبة إلى النّجف : الحلقة الأولى

2022.06.04 - 10:46
Facebook Share
طباعة

 في بلاد لا تعرف إلا الشّمس، تحترق الأفكار في الرّمضاء، وتكون الجاهليّة فخراً لمن يريد أن يفتخر. بجوار بيت عتيق تقدّس فيه كلّ شيء، نُصبت الأزلام والأصنام فيه جيلاً بعد جيل، فحوّلته من رمزٍ للتوحيد إلى شعارٍ قبليّ يخصّ العرب جميعهم، إلا أنّه يميّز قريشاً وحدها عن كلّ من حولها. بيتٌ تُجبى إليه ثمرات كلّ شيء، فلا زالت العرب تحجّ إليه كما علّمهم إبراهيم وإسماعيل. لكن تغيّرت الطّقوس، فالناس يطوفون بالبيت عراةً يرددون كلاماً غريباً لا يمتّ لدين إبراهيم بصلة. أسماءٌ باطلة سمّوها ما أنزل الله بها من سلطان تتردد في فناء البيت، ويتركّز كبير الآلهة هبل وزوجته مناة وخليلته العُزّى داخل الكعبة. هذا الوضع المميّز لقريش جعلها قبلة العرب، وسيّدها على المجتمع القبلي في الجزيرة العربيّة، ففيها يُباع كلّ شيء للحجيج على مدار العام، وفي موسم الحج خصوصاً بأعداد كبيرة تحتاج للمأكل والمشرب وكلّ الأشياء التي يستهويها الحاجّ في رحلته إلى البيت العتيق. طبقة من السّادة التّجار نشأت بفضل الحانات والأسواق التي تعجّ بالحجيج. تجّار لا يعرفون من الحياة إلا الدنانير التي تدّرها عليهم خدمة الحجيج، هم في الحقيقة عبدة للدينار، وما تمسّكهم بآلهتهم الحجريّة إلا مراءٌ تمليه عليهم الفائدة والمصلحة من استمرار العبوديّة لها لدى العرب. أشراف مكّة من أبناء قصيّ بن كلاب كبني عبد الدار وبني عبد مناف وبني عبد العزّى كانت لهم الكلمة الأولى والأخيرة في قريش، فهم سدنة الكعبة وخدّام الحجيج، وهم وأحلافهم من العرب يعطون لقريش هيبتها، فقد ساد في مكّة أمان من الغزو لم تعرفه الجزيرة العربيّة كلّها بفضل عزّة وقوّة وتحالفات قصيّ بن كلاب القديمة التي توارثها أبناؤه كابراً عن كابر.

تميّز بنو عبد مناف عن أبناء عمومتهم من بني قصي بن كلاب بتفانيهم في خدمة بيت الله وضيوفه، فكانوا أكثر الباذلين في هذا السبيل، فهاشم، أو عمرو بن عبد مناف بن قصي هو الذي أطعم الحجيج وحده يوم أمحلت السّماء فنحر كلّ ما لديه من إبل طوال موسم الحجّ ليُطعم كلّ جائع في مكّة، حتّى الطيور والسّباع أطعمها وهو يهشم[1] بيديه، قال مطرود بن كعب الخزاعي:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه     قوم بمكّة مســــــنتين عجافِ
سُنّت إليه الرحلتان كلاهما        سفرُ الشّتاء ورحلة الأصيافِ
فإذا أرّخت قريش تاريخها، لا يمكن إغفال هذا العلم البارز، الذي أعاد لولد إسماعيل اعتبارهم، واستعاد مفاتيح الكعبة من قبيلة خزاعة بعد حربٍ ضروس وجعلها في ولده. وهو الذي سنّ رحلات قريش التّجاريّة التي كانت تسير في الصحراء آمنة مطمئنّة بتجارة قريش التي لا تنقطع، قال الله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ[2]}.
في زحمة الحجيج والمصالح، وفي بيت من بيوتات بني عبد المطلب بن هاشم، يزور أكثر رجال قريش وقاراً وهيبة محمّد بن عبد الله عمّه أبو طالب سيّد قريش بعد أبيه عبد المطلب. لا تجد في بيت أبي طالب البهرجة التي تجدها في بيوتات سادة قريش الأخر، إذ لم يبقِ العطاء لأهل البيت إلا ما يسدّ رمقهم. ما أكرمهم من أهل بيت ورثوا البذل عن جدّهم. النّور المرافق لمحمّد بن عبد الله يغمر بيت أبي طالب، حتّى كأن لا حاجة للسّراج في وجوده. فاطمة بنت أسد سيّدة البيت تحاول الوقوف وهي حامل ترحيباً بحامل الأنوار محمّد بن عبد الله، فيشير لها الضّيف أن تجلس ولا تتكلّف قائلاً: "على رسلك يا أمّاه، ابقي كما أنت"، فتشير إلى بطنها وتقول: "إنّه هو يا محمّد، لا تزورني مرّة إلا ويبدأ بالحراك في بطني حتّى أقف احتراماً لك". ما هذا الحبّ لرسول الله؟! أفي بطن أمّك يا علي تُدرك ما ليس يدركهُ الآخرون، فتجبر أمّك على الوقوف لرسول الله، سبحان الذي صوّركما، وجعلكما هاديين للبشريّة. يقترب محمّد من السيّدة الفاضلة التي ربّته بعدما تكفّله عمّه أبو طالب وهو ابن ثمان سنوات، مسح على بطنها وقال: "سيكون لك من بطنك هذا ذكراً عظيماً في الورى يا أمّاه". تدمع عيناها، وتقبّل رأسه الشريف، وكيف لها ألا تصدّق وهو الصّادق الأمين. فاطمة بنت الأسد بن هاشم، تزوّجها ابن عمّها أبو طالب، فأنجبت له طالب وعقيل وجعفر، وهي سيّدة من سيدات قريش اللواتي يعرف الجميع حسبها ونسبها الشريف، وزوجها سيد الأسياد في قريش.
ينظر أبو طالبٍ لابن أخيه نظرةً ملؤها الحنان، مطمئناً عليه وقد أطال الغيبة في غار حراء هذه المرّة، ويقول: "يا محمّد، أنت تعرف أنّك منّي كأولادي بعدما أوصاني جدّك عبد المطّلب بك على فراش الموت، فمرني يا قرّة عيني كي أخطب لك أعزّ فتاةٍ في قريش"، يصرّ محمّد على فاطمة أن تستريح، بينما يجيب عنه عمّه الحمزة الذي سمع بزيارة محمّد فأتى ليطمئن عليه: "أما آن لك أن تستريح يا أبا طالب، فمحمّد أبعد النّاس الآن عن الزّواج، إنّه ناسك قريش وأمينها، فما لمحمد والنّساء"، ابتسم محمّد لعمّه وأخيه من الرّضاعة الحمزة بن عبد المطّلب، وجلس في صدر الدّار، وأهل الدّار يلتمسون على وجهه الأنوار التي تشدّ العيون إلى هذا الرّجل النوراني فلا تستطيع أن تشيح البصر عنه. تسامروا حتّى العشاء الآخرة، وقصّ عليهم الحمزة قصصه مع صيد السّباع في الصحراء، وقطّاع الطّرق الذين يواجههم وحده في البيداء، فيقتل من يقتل منهم ويفرّ من أمامه من يفرّ منهم. الأمان والنّصرة هي مشاعر صادق قريش بين قومه الأشراف، إنّهم يحيطونه بأهداب عيونهم منذ أن مات أبوه وهو جنين فكانوا مشيمته التي لم ولن تنقطع أبد الدّهر. دعا محمّد لعمّه الحمزة بالهدى دائماً في ظلمات البوادي، ودعا لأبي طالب بالعافية وطول العمر، وطلب من الله لفاطمة أن ييسر ولادتها ويخفف عنها ألم المخاض، ثمّ استأذن وغادر إلى بيته يرافقه الحمزة إلى أن أوصله لبيته القريب من دار أبي طالب في الشِّعب، شعب أبي طالب في مكّة.
 


[1] هشم اللحم أو الثريد فتته وقطّعه.
[2] سورة قريش.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى