الإمام علي يوم بدر
تمادت قريش بغيّها في التّشفّي من المسلمين الذين فرّوا من ظلمها إلى المدينة، فصادرت جميع أموالهم في مكّة، وجهّزت بها عيراً إلى الشّام لرفد تجارتها التي تضررت بفعل الانشغال بإجهاض التمرّد داخل مكّة الذي قاده محمد بن عبد الله لسنين عشر أنهكت قريشاً، وأبدلت هناءتها توتّرات لا تنقطع، وخلافات حادّة بين الآباء والأبناء، والأخوة فيما بينهم، فهذا الدّين الجديد غيّر كلّ شيء في مكّة، تقاليد الجاهليّة أصبحت معرّضة للانتهاك من قبل أصحاب محمّد. جسارة ما بعدها جسارة. لم يعد هناك حرمة للأصنام التي استمدّت منها قريش قوّتها ومنعتها لقرون، ولم يعد هناك احترام للفوارق العائليّة والطّبقيّة، بل مساواة بين الحرّ والعبد أمام إله واحد لا يُرى ولا يُلمس، لكنّه يتكلّم إلى محمّد فقط.
لم تنس قريش أيضاً إهانتها يوم أفلت منها محمّد عشيّة افتداه ابن عمّه عليّ بن أبي طالب بالمبيت في فراشه، وها هي لا تألو جهداً في استفزازه هو وصحبه رغم ابتعادهم عنهم لأميال في مدينتهم الفاضلة يثرب. غير أنّ الثأر عادة متأصلّة في الجاهليّة، والموت هو عقوبة من تجرّأ على دين الآباء والأجداد، فسفهه وردّ النّاس عنه.
بالمقابل كانت صدور المسلمين في المدينة تغلي بالنّقمة على من اضطهدهم، وهجّرهم، وصادر أموالهم، فكيف وهم يسمعون بمرور قافلة قريش المحمّلة بأموالهم المصادرة على مقربة منهم متّجهة إلى الشّام. هدّأ الرّسول صحبه، فالقتال لم يشرّع له بعد. إنّه نبيّ، وليس شيخ قبيلة جاهلي يستمّد أحكامه من التقاليد وردود الفعل.
على مضض انتظر المسلمون أمر الرّسول صلى الله عليه وسلّم بخصوص القافلة، وما هي إلا أيّام حتّى نزل الوحيّ وفيه الإذن الصّريح للمسلمين بقتال الكفّار الذين ظلموهم وأخرجوهم من ديارهم، فتلى النّبي على صحبه: "أُذن للذين يُقاتلون بأنّهم ظُلموا وأنّ الله على نصرهم لقدير* الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربُنّا الله[1]". كبّر المسلمون، فارتّجت المدينة لهدير تهليلهم، وأصبح كلّ فردٍ فيها يبحث في بيته عن سيفٍ أو رمحٍ أو كنانة سهام يشارك فيها في الثأر من المشركين. إنّه اليوم الموعود، فكم سامتهم قريش من عذاب ومن أذى، وقد حان الوقت للثأر من هؤلاء الذين لا يقيمون للقربى أيّ حقوق، وينكّلون بالضعفاء والفقراء الذين عرفوا طريق الحقّ فاختاروه.
لم تنم المدينة ليلتها، بل كانت خليّة نحل تتحضّر للنفير، يومها قال المقداد بن عمرو الكنديّ كلاماً رائعاً في حضرة الرّسول: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ". عندما رأى الرّسول هذا الاندفاع من المسلمين، والكثرة التي أرادت النّفرة معه، استبشر بهم، ودعا لهم بالخير، ووعدهم بنصر الله والمدد من ملائكته، لكنّه حاول ثني الأنصار عن الاشتراك بهذا الأمر، فالظّلم وقع على المهاجرين، وحَسبُ الأنصار ما عانوه من استضافة إخوانهم من المهاجرين، وما جرّ ذلك عليهم من حصار اقتصادي خانق فرضته عليهم قبائل العرب، لمؤاواتهم طريد قريش، فقال الرّسول مقالةً تفكّ الأنصار من عبء النفير، فتنّبه له سعد بن معاذ سيّد الأنصار، وقال قولته الشّهيرة: "يا رسول الله لقد آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ نَلْقَى عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ"، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قال: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَعَدَنِي النّصر، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ الآنَ مَصَارِعَ الْقَوْمِ[2]".
خروج الرّسول لملاقاة عير قريش:
باشر الرّسول من فوره إعداد الجيش المتواضع وأمره بالتّحرّك، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وخرج في اليوم التالي في ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً من المؤمنين يقصدون آبار بدر كما أشار بذلك الحباب بن المنذر على رسول الله، وكان أخبر بالمنطقة وشعابها، ويعلم أنّ أبا سفيان زعيم القافلة، لا بدّ سيمرّ بالآبار ليتزوّد بالماء للرّحلة الطّويلة إلى الشّام. استحسن النّبيّ الفكرة وقرر المسير نحو بدر برجاله المسلّحين بالإيمان والعزيمة بعد أن قسّم الجيش إلى كتيبتين، كتيبة المهاجرين وكتيبة الأنصار، فأعطى لواء الكتيبة الأولى لبطل المهاجرين عليّ بن أبي طالب، وأعطى لواء الثانية لزعيم الأنصار سعد بن معاذ.
بدأ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالمسير مع جيشه على الطريق الرئيسيّ المُؤدّي إلى مكّة المُكرّمة، ثمّ انحرف إلى اليمين باتِّجاه منطقة النازيّة؛ قاصداً مياه بدر، وقبل وصوله إليها، في منطقة الصفراء بَعث بسبس بن عمرو الجهنيّ، وعديّ بن أبي الزغباء الجهنيّ إلى بدر يتحسّسان أخبار القافلة. غير أنّ مسير المسلمين من المدينة كان أمراً لافتاً، فلم تبقَ قبيلة إلا وأرسلت إلى أبي سفيان عيونها لتنبهه بسعي المسلمين إليه للانتقام، فأبو سفيان زعيم مكّة بعد وفاة أبي طالب، وبعد أن حُجب هذا المنصب عن الهاشميين لخروج النبيّ منهم على تقاليد وأعراف القبيلة، لذلك فإنّ كلّ أعرابيّ يريد أن يكون له الحظوة عند أبي سفيان بهذا الخبر، وبالفعل وصلت الأخبار إلى أبي سفيان بأنّ رسول الله خرج مع أصحابه؛ للإيقاع بالقافلة، فخاف وتزلزلت أركانه، وبعث ضمضم بن عمرو إلى مكة يستصرخ أهلها؛ لحماية القافلة[3]. إلّا أنّه لم ينتظر وصول المَدد من أهل مكة، بل بذل أقصى ما لديه من دهاء وحنكة؛ للهروب من جيش الرسول -عليه السلام-؛ فعندما اقتربت قافلته من بدر سَبَقها، ولَقِيَ مجدي بن عمر وعَلِم منه بمرور راكبين بالقُرب من بدر، فسارع أبو سفيان بأخذ بعض فضلات بعيرَيهما، ووجد فيها نوى التمر، فعَلِم أنّ جيش النبيّ قريب من بدر؛ لأنّه علف أهل المدينة، ممّا جعله يسارع إلى القافلة مُغيِّراً اتّجاهها تاركاً بدراً إلى يساره، فنجت القافلة[4].
قريش تجهّز جيشها:
عندما وصل خبر خروج المسلمين لملاقاة قافلتهم تجهزّ أهل مكّة من فورهم وتنكّبوا للدّفاع عن قافلتهم، فنفر منهم أَلْف مقاتل، مجهّزين بأعتى آلة الحرب، منهم ستمئة يلبسون الدروع، أمّا البعير والخيل فكان معهم منها سبعمئة بعير، ومئة فرس، بالإضافة إلى القِيان معهم يُغنِّين بذَمّ المسلمين. إنّها الفرصة التي انتظرها القرشيّون طويلاً، فقد أخطأ محمد أخيراً وخرج من مدينته طالباً حربهم، وهم الآن يستطيعون أن يبيدوا جيشه المتواضع هذا على مرأى ومسمع القبائل العربيّة دون أن تصيبهم من ذلك معرّة تُذكر، فهو البادئ بالعدوان -بزعمهم- وهو الذي سينال الخيبة والخسران في الميدان.
أشار عليهم أبو جهل بن هشام بالمسير بالجيش إلى أن يصل بدراً، فيقيمون هناك ثلاثة أيام يأكلون، ويشربون، ويُغنّون؛ حتى تسمع بهم قبائل العرب جميعها؛ بهدف فرض هَيبة قريش، بعدما قوّض المسلمون تلك الهيبة بعصيانهم وخروجهم على الطّاعة، والتزامهم بدين محمد، فبرأيه أنّ النّبي سيفرّ من أمام جيشهم الجرار وصحبه، فمن يقدر على مواجهة ألف مقاتل بينهم مائة فارس؟
اعترض عتبة بن ربيعة على ذلك، وخشي من قتال الآب لأبنائه والأخ لإخوانه، فابنه أبو حذيفة مع جيش المسلمين، بينما هو وأخوه شيبة وابنه الوليد في جيش قريش، فقال لقومه ناصحاً: "اعصبوها برأسي، وقولوا جبُن عتبة وعودوا إلى مكّة"، أي انسبوا الجبن لي شخصيّاً وأشيعوا ذلك بين العرب، وعودوا إلى دياركم بعدما نجت القافلة، ولا تقاتلوا أبناءكم وأهلكم وأبناء قبيلتكم، فهذا الأمر لم يحصل في الجاهليّة مطلقاً أن تحارب القبيلة أهلها. غير أنّ أبا جهل وأميّة بن خلف وغيرهم من سادة قريش رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً بحجّة أنّ قريش ستفقد هيبتها بعد ذلك للأبد، ثم إنّ فرصة كهذه للقضاء على محمد ودعوته ربّما لا تتكرر ثانية.
تغيّر المعطيات لدى المسلمين:
طال انتظار المسلمين للقافلة التي لم تأتِ، وبدأ التململ يظهر بين صفوفهم، فالحماس يخبو إن لم يجد له متنفّساً، ويبدأ مفعوله العكسي. غير أنّ ذلك لم يطل حتّى عَلم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بخبر تغيير القافلة مسارَها، وأنّ جيش مكّة خرج وواصل مسيره باتجاههم بالرغم من نجاة قافلتهم. فرأى الرّسول بحكمته أنّ الرجوع يَدعم المكانة العسكريّة لقريش في المنطقة، ويُضعِف كلمة المسلمين، وليس هناك ما يَمنع المشركين من مواصلة مسيرهم إلى المدينة وغَزو المسلمين فيها، فسارع إلى عقد مجلس عسكريّ طارئ مع أصحابه، فهو لا يسوسهم بديكتاتوريّة أبداً رغم موقعه من قلوبهم ومن الله سبحانه وتعالى، فأيّ أخلاق عظيمة تلك.
في الاجتماع وضعهم النّبي في صورة الموقف الجديد مثل أيّ قائد عسكري لديه فكر استراتيجي، فالتكتيك القديم لم يعد ينفع، وجيش المسلمين بدائي، قليل العدد مسلّح بتسليح بسيط، فقد كان أغلب الصّحابة يحملون حديداً وعصيّاً، صدورهم بلا دروع تحميها، بينما جيش المشركين مجهّز بأحسن تجهيز، بعد أن خرجت قريش بأكمل عدّتها لتجتث جذور الدّعوة الإسلاميّة. فبيّن لهم الرسول خطورة المَوقف؛ وإنّهم مُقدِمون على أمر لم يستعدّوا له كامل الاستعداد؛ فقد خرجوا لأمر بسيط، فالاستيلاء على قافلة تحميها عشرات الفرسان شيء، ومواجهة جيش المشركين الجرار شيء آخر. موقفٍ صعب، وجب على النّبي تبيانه لقادة جيشه، فكان عليّ على يمينه وسعد على شماله وعمّه الحمزة بين يديه يحثّونه على المضي بالأمر غير هيابين هيلمان قريش وماكينتها الإعلاميّة، فهم أسود بني هاشم الذين تعرف البطحاء وطأتهم، ومن خلفهم أنصار قلوبهم كزرد الحديد لا يفلّها شيء. قال الله تعالى في كتابه الكريم واصفاً تلك اللحظات بدقّة الحاضر الذي لا يغيب عنه شيء في هذا الكون: "إِذْ أَنتُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَٰدِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٍۢ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَنۢ بَيِّنَةٍۢ ۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ[5]".
وقف المسلمون؛ مهاجرين وأنصاراً وِقفة رجل واحد إلى جانب رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فقال لهم مُبَشّراً: (على بركةِ اللهِ وأبشروا، فإنَّ اللهَ قد وعدني إحدَى الطَّائفتين، واللهِ لكأنِّي الآن أنظرُ إلى مصارعِ القومِ[6]).
بات المسلمون ليلتهم وقد امتلأت قلوبهم بالثقة، والاستبشار بعطاء الله، وكان رسول الله مُتفَقِّداً لأصحابه، ومُنظِّماً لصفوفهم، ومُذكِّراً لهم بالله، واليوم الآخر، ومُتضرِّعاً لله -جلّ جلاله- يدعوه بقوله: (اللهمَّ أين ما وعَدتَني؟ اللهمَّ أنجِزْ ما وعَدتَني، اللهمَّ إنْ تَهلِكْ هذه العِصابةُ مِن أهلِ الإسلامِ فلا تُعبَدُ في الأرضِ أبدًا[7])، فأنزل الله تلك الليلة مطراً خفيفاً يُثبِّت به القلوب، ويُطهّرها من وساوس ّالشيطان، ويُثبّت به الأقدام؛ حيث إنّ الرمل تماسك، وتلبّد بماء المطر، فسَهُل المسير عليه؛ وثبت الميدان تحت أقدام المسلمين. قال الله تعالى: (
إِذ يُغَشّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطانِ وَلِيَربِطَ عَلى قُلوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدامَ[8])
.
التقاء الجمعين:
في صباح السابع عشر من رمضان من ذاك العام، ومع ارتفاع الشّمس في الضّحى، بدأت الأرض تميد تحت أقدام جيش المشركين الذي سدّ الأفق أمام معسكر المسلمين. وقف النّبيّ والحمزة بن عبد المطّلب على يمينه، وعلي بن أبي طالب على يساره والمسلمون من خلفهم صفاً كالبنيان المرصوص يراقبون تموضّع كتائب المشركين، وبالأخص كتيبة فرسانهم البالغ عددها مائة فارس التي ستكتسح صفوفهم بعد قليل بسنابكها التي تقدح شرراً.
سارع الرّسول صلى الله عليه وسلّم لشدّ عزيمة اصحابه الذي بدأت الرّهبة تتسلل إلى قلوبهم، وهم البسطاء حديثو العهد بالحرب ها هم يقفون فجأة أمام جبروت قريش دفعة واحدة، فأخذ قبضة تراب من الأرض ورماها نحو جيش المشركين قائلاً: "شاهت الوجوه"، فما بقي مشرك واحد إلا وأصابت عيناه حصباء الرّسول[9]، فكبّر المسلمون وهللوا بعد هذه المعجزة من رسول الله وأيقنوا أن الله معهم.
عندما اصطفّ المشركون للقتال كانت الشّمس قد قاربت على التعامد مع أرض الميدان، وأشعل الحرّ صدور المشركين. بينما المسلمون يسيطرون على آبار بدر، فقررت عصبة من فرسان المشركين اقتحام الآبار عنوة كي يشربوا منها في خطوة ترهب المسلمين، وتعيد روحهم المعنويّة إلى مستواها الطبيعي بعدما وصلت صيحات تكبيرهم إلى عنان السّماء. فأقبل الأسود بن عبد الأسد المخزومي في جماعة من الفرسان يريدون الخوض في البئر ليشربوا الماء، فطلب الرّسول من أصحابه أن يفسحوا لهم المجال كي يشربوا، غير أنّ الأسود ظنّ هذا الموقف ضعفاً من المسلمين، وكان شخصاً معتّداً بقوّته سيء الخلق، فتجرّأ على رسول الله قائلاً: "لأشربنّ الماء ولأمجّنه[10] في وجهك يا محمّد"، فخرج له الحمزة بن عبد المطّلب كالأسد الهصور وقتله بضربة واحدة انتصاراً لرسول الله، ففرّ الفرسان الباقون الذين رافقوه كالغنم، وعلا تكبير المسلمين من جديد.
المبارزة:
لم يثني ما جرى حتّى السّاعة قريشاً عن الطغيان والتّجبّر، فقرر سادتها وقادة كتائبها بدء المعركة بحسب التّقاليد العربيّة، فخرج عتبة بن ربيعة حتّى لا يوصم بالجبن كونه دعا جيش قريش للعودة دون قتال، وخرج معه ابنه الوليد، وأخوه شيبة. اصطفّ الرّجال الثلاثة، ونادى عتبة بأعلى صوته: "هل من مبارز؟". فخرج ثلاثة نفر من الأنصار أنكرهم عتبة، فصاح ثانية: "يا محمّد أخرج لنا نظراءنا من قومنا". فأشار الرّسول لعمّه الحمزة، ولعلي، ولابن عمّه عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب، فامتثلوا لأمر الرّسول. بعد أن دعا لهم النّبي خرجوا من بين صفوف المسلمين كثلاث أسود لا تعرف الخوف يتهادون على أرض بدر المحرقة. ما إن رآهم عتبة وصحبه حتّى وقعت الرّهبة في نفوسهم، فهو أدرى النّاس ببأس بني هاشم، ولكن هيهات، لا مجال للتّراجع الآن.
برز الحمزة لعتبة، وعليّ للوليد، والحارث لشيبة، وبدأت المبارزة وحُبست الأنفاس في كلا المعسكرين، فلا تسمع إلا صوت اصطكاك السيّوف. لم تطل مبارزة عليّ عليه السّلام للوليد، فكانت ضربة واحدة أطاحت برأسه، فكبّر المسلمون وكبّر معهم الرّسول. ثم انتبهوا بعد ذلك للحمزة الذي كان يتبادل الطعنات مع عتبة قبل أن يطيح برأسه بضربة هاشميّة لا تردّ، فكبّر المسلمون ثانيّة. أمّا شيبة وعبيدة فاختلفا بضربتين وطعن كلّ منهما الآخر، فوقع عبيدة مضرّجاً بدمائه، فوثب عليّ على شيبة وأجهز عليه. ثمّ حمل الحمزة وعليّ عبيدة وعادوا به إلى معسكرهم منتصرين تاركين جثث خصومهم مضرّجة بدمائها على أرض بدر.
التحام القتال:
بعد المبارزة وصلت معنويات المسلمين إلى عنان السّماء، وصار تهليلهم يقرع رؤوس أصحاب الشرك كقرع الرّعد، فما كان من حنقهم على المسلمين إلا أن أصدروا أمراً بالهجوم الكاسح للفرسان ومن خلفهم الرّجالة كي يقضوا على المسلمين قضاءً شاملاً، فانطلقت خيول المشركين تدكّ الأرض دكّاً، ومن خلفها الرّجالة يركضون كي يقضوا على فلول المسلمين بعد أن تمزّق الخيل صفوفهم. هذا التكتيك كان متّبعاً لدى الحروب القديمة كلّها، إذ لم يكن هناك أمل بالنّصر لأيّ جيش إذا لم يكن لديه كتيبة من الفرسان، وهذا ما استغلّته قريش، مطلقة كلّ ماكينتها الحربيّة دفعةً واحدةً باتّجاه جيش بسيط شبه أعزل إلا من الإيمان بالله ورسوله.
شاهد الرّسول جحافل المشركين تنطلق باتّجاه معسكره، فطلب من المسلمين الالتزام بالصّف وألا يتحرّك أحد منهم من مكانه إلا بأمره، وأمر حملة الرّماح أن يشكّلوا سدّاً منيعاً بوجه الفرسان، وأن يقوم الرّماة بنضح الخيالة بالنّبل من خلف الصفوف الأولى. علت أصوات استغاثة المسلمين بالله، فالوضع في تلك اللحظات رهيب، وقد بلغت القلوب الحناجر من الرّهبة والخوف. قال الله تعالى: "إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ[11]"، ثمّ قال جلّ وعلا للملائكة: "أَنّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذينَ آمَنوا سَأُلقي في قُلوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ فَاضرِبوا فَوقَ الأَعناقِ وَاضرِبوا مِنهُم كُلَّ بَنانٍ[12]".
اصطدمت موجة فرسان قريش بصفٍ ثابت من المسلمين حملة الرّماح كبنيان مرصوص، لم يتزحزح منهم أحد من مكانه، وجاءتهم سهام المسلمين تصيب منهم كلّ نقطة ضعف، قال الله تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى[13]". هنا حصل مالم يكن متوقّعاً أبداً، لقد ارتّدت الخيل هاربة، ترمي فرسانها عن ظهورها، لتصطدم موجة رجّالة المشركين المتتابعة بالخيل المنهزمة، فداستهم أيضاً وشتت شملهم. انتهز النّبي صلى الله عليه وسلّم هذه الفرصة، فأمر أصحابه بالهجوم على صوت الله أكبر الذي زلزل قلوب المشركين، فانطلق عليّ في المقدمة كالأسد سيفه مسلط بيد، وراية رسول الله بيد[14]، ومن خلفه الحمزة والزّبير بن العوام، وانطلق المسلمون في إثرهم.
عليّ يجندل صناديد قريش:
دخل عليّ بين فلول المشركين كأسد توسّط المعزى، فكان أوّل من برز له منهم حنظلة بن أبي سفيان فقتله بضربة واحدة، ثم برز إليه طعيمة بن عديّ فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد، ثم برز له بطل الأبطال أبا قيس بن الوليد شقيق خالد بن الوليد فأذاقه عليّ طعم سيفه بضربة لم يثنّها فسقط يعضّ التّراب، ثمّ جاءه عامر بن عبد الله النمريّ فقضى عليه بضربة واحدة أيضاً. كان مشهداً بطولياً قلّ نظيره، فهذا الفتى المغوار لا يقف في وجهه أحد إلا قتله بضربة، العاص بن سعيد العاص، عقبة بن أبي معيط، زمعة بن الأسود، النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة، عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، حرملة بن عمرو، مسعود بن أبي أمية بن المغيرة، حاجب بن السائب بن عويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، عبد الله بن المنذر بن أبي رافعة، ابن العاص بن منبه بن الحجاج، العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، ثمّ وصل عليّ إلى حامل لواء المشركين، طلحة ابن أبي طلحة، فقتله معجلاً وأسقط راية قريش تحت قدمه، فصاحالحجاج بن علاط السلّمي مستعطفاً عليّاً: "على رسلك يا ابن العمّ فقد أثكلت كلّ بيت في قريش". ثمّ أنشد شعراً:
لله أي مذنّبٍ عن حربِهِ أعني ابنَ فاطمةَ المعمَّ المخوِلا
جادتْ يداك لَهُ بعاجلِ طَعْنَةٍ تَرَكَتْ طليحةَ للجبين مُجَنْدلا
وشددتَ شدةَ باسلٍ فكشفتَهُم بالحقِّ إذ يهوون أخولَ أخولا
وعللتَ سيفَكَ بالدماء ولم تكنْ لتردَّهُ حرَّان حتى يَنْهَلا
حينها أعاد الحمزة بن عبد المطّب ابن أخيه للخلف، وأمر بقيّة الصّحابة أنّ يكملوا عن عليّ اللحاق بفلول المشركين وإكمال النّصر، فلحقوهم كالصّقور يقتلون صناديدهم، فلم ينجلي غُبار المعركة إلا وأبو جهل وأميّة بن خلف بين القتلى جيفاً لا روح فيها تلفحهم شمس بدر، وقد أسروا أيضاً سبعين رجلاً من قريش استسلموا للمسلمين صاغرين، وغنموا كلّ متاع قريش التي انهزمت مخلّفة وراءها هيبتها وجبروتها اللذان داستهما أقدام المسلمين.
دور عليّ في النّصر:
لا أحد ينكر أن سيف علي هو صانع النّصر في بدر، فانطلاقه نحو جيش المشركين غير هيّاب لعددهم وعدّتهم، وقتله هذا العدد الكبير ممن برزوا له من صناديد قريش، أوهن عزيمة المهاجمين، وألهب حماسة المسلمين الذين انطلقوا في إثره معتمدين على هذا الزّخم البطوليّ النّادر الذي فجّره الفتى الهاشمي، ولا ننكر أيضاً دور الحمزة بن عبد المطّلب صيّاد الأسود، الذي كان جنباً إلى جنب مع عليّ في هجومه الكاسح، يجهز على من أراد الغدر بابن أخيه المغوار.
بطولة نادرة في زمن صعب، ففي تلك اللحظات، حين تطغى على المرء إنسانيّته، ويخاف كثرة المهاجمين، اقتحم رجلان مؤمنان جحافل الأعداء بسيفيهما غير هيابين، فكانت تلك البطولة التأسيس الحقيقي للدّولة الإسلاميّة، فلو أنّهما تقاعسا -لا سمح الله- وتركا الفرصة للخيل أن تجتمع وتعاود الكرة، وأن يرتصّ من خلفها رجّالة المشركين لكانت النتيجة محسومة لا محالة لصالح قريش، غير أنّ الله ثبّت قلوب المسلمين خلف عليّ والحمزة، وكان النّصر الإلهي المبين.
قال الله تعالى في ذلك: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾.
[1] سورة الحج الآية 39-40
[2] دلائل النبوّة للبيهقي الحديث 903
[3] صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، صفحة 184-185.
[4] محمد الغزالي، فقه السيرة، صفحة 235-236.
[6] المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 188-189.
[7] صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 1763.
[9] سيرة ابن هشام، ج1، ص 628.
[14] تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر، وابن عبد البر في السيرة الحلبية.