يعتبر عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر، من أهمّ الوثائق السياسيّة الإنسانيّة على مرّ التاريخ، إذ لم تحظَ وثيقة على مرّ العصور، بمثل ما حظيت به هذه الوثيقة من الاهتمام والدرس. حتّى بلغ الأمر بالأمم المتّحدة لاعتبارها من أهمّ الوثائق في التراث الإنساني قاطبةً، ومصدراً هاماً من مصادر حقوق الإنسان.
وانطلاقاً من دورنا الهادف إلى اللإضاءة على تراث أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتمثّل نهجه بغية إعادة النهضة العلوية إلى الواجهة، لما في ذلك من فائدة للبشريّة جمعاء، لذلك سنقوم تباعاً بشرح هذه الوثيقة العظيمة، مستلهمين منها كلّ الدروس والعبر القيميّة، والفوائد العامة.
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا.
بعد البسملة، التي هي فاتحة كلّ شيء في حياة أمير المؤمنين، الذي عاش عمره لله وبالله، يوجّه أمير المؤمنين عهده إلى مالك الأشتر واليه الثاني إلى مصر، بعدما قتل زبانيّة معاوية بن أبي سفيان الوالي الأوّل محمّد بن أبي بكر، وهو في طريقه إليها، ومثّلوا بجثّته. فثنّى إمام بخاصّة جنده، وأقرب النّاس إليه مالكاً الأشتر، وحمّله هذا العهد، موصياً إياه بما يلي:
1- مهام الولاية الرئيسيّة: هي جباية الخراج، أي جمع الضرائب المفروضة على الناس كي تستطيع الحكومة القيام بما أوكل إليها من مهام، وقد لخّص الإمام المهام التي يجب على الحكومة أن تضلع بها مقابل الضرائب التي تتلقاها وهي:
أولاً- جهاد عدوّها: هذا واجب الحكومات الشرعي، إذ يجب عليها بالمقام الأوّل رد الأعداء عن حدود البلاد ومقدّراتها، والحكومة التي تستنكف، أو تتقاعس عن ذلك، لا يحق لها بالتالي أن تستأثر بالخراج أو الضرائب، ولا يُجب على مواطنيها طاعتها. فلا يُمكننا أن نرى بلاداً بلا أمن، مستباحة للأعداء والطامعين، وهذا أيضاً ينطبق على الأمن الدّاخلي، فمسؤوليّة ضبط الأمن إنّما هو واجب شرعي على الحكومة، فوضع الحدّ لشرار النّفوس في الدّاخل يأتي بالأهميّة ذاتها لوضع حدٍ للأعداء الخارجيين.
ثانياً- استصلاح أهلها: إنّ من أهمّ واجبات الحكومة، إصلاح أمر النّاس، وقد أطلق الإمام العبارة على عمومها، لتشمل، التوعية، والتعليم، والتأهيل، والتمكين، وكل ما من شأنه رفع سويّة الرعيّة في البلاد. هي عناصر أساسيّة لمجتمع ثابت الأركان، راسخ في الانتماء، فالمجتمع الواعي عصي على الفتن، والمجتمع المتعلم مجتمع متنور يخدم ذاته بذاته، والمجتمع المتأهل والمتمكن مجتمع منتج يطوّع إمكانياته في سبيل نهضة الكل، ورفاهية الكل.
ثالثاً- عمارة بلادها: على الحكومة أيضاً، واجب عمارة البلاد، وإنشاء المشاريع العامّة والبنى التحتيّة، وشقّ الطرق، وإقامة الجسور، فكلّ هذا إنّما يصبّ في النهاية في خانة المصلحة العامّة، ورفعة الدّولة، وكفاية أهلها.
2- التزامات الحاكم:
يتابع أمير المؤمنين (عليه السلام) وصيّته لعامله على مصر، فيقول:
"أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ، مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَيَزَعَهَا ([1])عِنْدَ الْجَمَحَاتِ([2])، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلاَّ مَا رَحِمَ اللهُ."
إن من أهمّ التزامات الحاكم ربمّا ليست في حسبان أحد اليوم، هي لسيت السطوة السياسية، ولا تعداد البنادق، ولا سعة السجون، إنّها التقوى، وطاعة الله، فهل سمعتم من حاكم يلتفت لهذا؟ إنّما عليّ بن أبي طالب يركّز لإيما يركّز عليه في عمّاله على الأمصار هذا الأمر. وعلى الحاكم أن ينصر الله حتّى ينصره الله، وأن يتحكّم بنفسه ويلجمها حين تختار شبيل الشهوات.
من واجبات الحاكم أن ينتبه إلى نظرة الناس إليه:
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ في مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ. فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ([3])، عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ والْإِنْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ".
اعلم يا مالك، أني أرسلك إلى بلادٍ عظيمة، قد حكمها من قبلك فراعنة وملوك، وكان فيهم العادل والظالم، وأن النّاس سينظرون إليك كما كانوا ينظرون إليهم، فإن أنت عدلت قالوا "عادل"، وإن أنت ظلمت قالوا فرعون جديد، وإنّما يستدل على الإمام العادل من قول النّاس فيه، لا بما يدّعيه من ورع وتقوى، فليكن طيب ذكرك هو أحبّ ما تجمعه من خير تلك البلاد، فاضبط نفسك ولا تمل إلى الباطل، وابخل عليها، فاكره لنفسك الفساد والإفساد كما تكره لنفسك المرض والذلّ.
لزوم حب الحاكم لمواطنيه وشعوره بأنه محكوم لمن هو أعلى منه:
يقول أمير المؤمنين: "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ(([4]مِنْهُمُ الزَّلَلُ([5])، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَاءِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ([6])".
عليك يا مالك أن تشعر بالرّحمة على الرعيّة، وأن تحبّهم وتتلطّف بهم تلطّف الأب على بنيه، فلا تستأسد عليهم تريد الفتك بهم، فالناس من رعيتك صنفان، إما أخوك في الدين والتوحيد، وبالتالي فلا يجوز لك أن تظلمه، وإما نظير ومساوٍ لك في الخلق، والنتيجة ذاتها، ففي الحالين أنت ممنوع من أن تظلم أخاك أو شخصٍ مساوٍ لك في الخلقة أمام الله، والناس بطبعهم خطّاؤون، فلا تتصيّد أخطائهم واعف عنهم ما استطعت، إن تطمح أن يعفو الله عنك، واستشعر دائماً أن الله فوقك يرقبك فيم ولاك به أتراك تُحسن الحكم أم تخفق فيه فيأخذك إليه وعندها ترى عجائب فعل الله فيك.
إذاً فالأصل هو العفو والعقوبة استثناء، والأصل اللين والعنف استثناء:
لا تجعل نفسك شعاراً للظلم فتكسب عداوة الله، فالله لا يحب الظالمين، وإن أنت كسبت عداوة الله فلا قدرة لك على دفع نقمته! ولا تستطيع أن تعيش في هذه الدنيا من غير أن يُسبغ عليك نعماءه ورحمته، فلا تقطع ذلك عنك بظلم عباده. وإياك أن تندم على عفوٍ أصدرته، وإياك أن تتفاخر بالشدّة والعقوبة، ولا تتسرع بإصدار الحكم بالعقوبة مغفلاً الأعذار المخففة لها، وإياك أن تدّعي أنّك الآمر النّاهي، فإنّ ذلك يجعلك قلبك غليظاً، ويُنقص دينك، ويقرّب انتهاء حكومتك.
كيف يُحَصِّن الحاكم نفسه من الغرور والظلم؟
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة([13]) أو مخيلة([14]) فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن([15]) إليك من طماحك([16])، ويكف عنك من غربك([17])، ويفئ([18]) إليك بما عزب([19]) عنك من عقلك، إياك ومساماة([20]) الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال".
انتبه يا مالك، فإذا بدأ العُجب يتسلل إلى نفسك، والاغترار بسلطتك، فتذكّر سلطة الله عليك، وقدرته على ما لا تقدر عليه رغم كلّ سلطتك تلك، فإن ذلك أولى بأن يُعيدك إلى رشدك، ويخفف من طموحاتك، فإياك ومنافسة الله في أسماءه، فذلك مدعاة لأن يذلكّ الله ويهينك.
القرارات المدروسة التي يجب أن ترضي الجميع، وبالأخصّ والعامة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله، كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض([21]) حجته، وكان لله حرباً حتى ينزع([22]) ويتوب. وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد".
أنصف يا مالك ربّك بإنصافك لعباده ومن ضمنهم نفسك، فلا تكن مطيّة لخاصّة أهلك ومن تحبّ على حساب رعيّتك، ولا تفضّلهم على بقية الخلق، فإن لم تفعل ذلك لإانت خصم لله، ومن خاصمه الله أبطل ادعاءاته، وأهلك حرثه ونسله، وأعلن الحرب عليه حتّى يكفّ عن المفسدة، وليس هناك شيء في الدنيا يسرّع زوال ملكك، ويأتيك بغضب الله أكثر من إفشاء الظلم بين عباده، فالله بالمرصاد للظالمين.
يتابع أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذات المنحى: "وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف([23]) برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف([24])، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع([25]) المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك([26]) لهم وميلك معهم".
اجعل يا مالك شعارك الوسطيّة في الحق، والشمول بالعدل، فإن ذلك يرضي عليك الرعيّة، فإن غضبت منك خواص أهلك لعدم تمييزهم عن البقيّة، فإنّ غضب العامّة عليك لا يمكن أن يغفره شيء من رضى الخاصّة، والعكس صحيح، فإنّ أهلك وخواصك لا يرضيهم شيء مهما فعلت لهم، وهم أقلّ الناس شكراً لك مع ذلك، وأبطأهم في نجدتك، بينما عدّتك وعونك في الملمات العامّة، فليكن استماعك لهم دائماً.
موقف الحاكم من تقارير الاستخبارات والنمّامين:
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأشْنَأَهُمْ([27]) عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ([28]) لِمَعَائِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ. أَطْلِقْ([29]) عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ([30]) وَتَغَابَ([31]) عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ([32]) لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ([33]) غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ".
عليك يا مالك أن تُبعد عنك العيّابون النمامون، وأن يكونوا أكره الناس إليك، وأبعدهم عن مجلسك، فالوالي أحق بستر عيوب الرعيّة فلا تكشفها، وخذ ما يصلك على مبدأ حسن النيّة، فاستر عورة رعيتك يستر الله عليك عوراتك أمام رعيّتك. فلا تترك للناس أي عقدة حقد فيما بينهم، واقطع عنك كل سبب للعداوة، ولا تركّز تفكيرك فيما لم يتوضّح لك من الأمور، ولا تصدّق السعاة بأخبار النّاس إليك والنّمامين، فهؤلاء غاشّون لأهلهم، فلا تعتقد أنّهم ينصحون لك.
صفات المستشارين للحاكم:
يا مالك، ولا تجعل أهل مشورتك من البخلاء الذين يميلون بك نحو الإقلال من الخير، ويعدك الفقر، ولا جباناً يقعدك عن التصرّف بحزم حين اللزوم، ولا من الحريصين فيزينون لك الظلم ليحصلوا على المنفعة، فالجبن والبخل والحرص هي أبشع الغرائز التي تتفرّع من سوء الظنّ بالله.
صفات الوزراء، وتفضيل تعيين الوجوه الجديدة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً([34]) فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَة([35]) وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ([36]) وَأَوْزَارِهِمْ([37]) وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ: أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً([38])، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ، حَفَلاَتِكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لِأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ([39]) عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ([40]) بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ([41])، وَتُدْنِي([42])مِنَ الْعِزَّةِ."
إياك يا مالك، أنن تتخذ وزراءَ ممن كانوا قبلك وزراء للأشرار، فقد تطبّعوا بطباع أسيادهم، بمشاركتهم بآثام أسيادهم من الظلمة وأصحاب الجور، فإياك أن تتخذ منهم حاشية، وأنت تستطيع أن تجد خيراً منهم بين النّاس ممن لم يعاون ظالماً على الظلم، وآراؤهم نافذة، وحكمتهم واضحة، وليس عليهم مثلما على أولئك من الآثام والأوزار. فهؤلاء الوزراء الأنقياء لا تحمل من أوزارهم شيئاً لأنهم غير فاسدين، وهم خير عون لك، يعطفون عليك، ويخففون عنك، ولا ينحازون لغيرك إذا جدّ الجد، فاجعل حاشيتك من هؤلاء، اختلِ بهم، واجتمع بهم، وليكن أفضلهم عندك أكثرهم إصابة للحق مهما كان مريراً، وأقلّهم خطراً على ولايتك، وأكثرهم طاعة لله وورعاً عن محارمه، ثم روّض هؤلاء الوزراء على أنّك لا تحب الإطراء والمديح الفارغ، وإنما تحب الصّدق والمصارحة، فكثرة الإطراء والنفاق تورث الافتخار والزّهو.
محاسبة الوزراء وفوائد إعطاء الحرية للمواطنين:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ تَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لهُ قِبَلَهُمْ([43]) فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً([44])طَوِيلاً وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَه".
إيّاك يا مالك أن تساوي بين المحسن والمسيء، فإنّ ذلك يجعل أهل الإحسان زاهدين بعمل الخير كونه غير ذي اعتبار لدى حكومة أهل المصر، ومدعاة لأهل الشرور كي يتمادوا في غيّهم، وألزم النّاس بما ألزموا به أنفسهم بالحدّ الأدنى، وأحسن إلى الرعيّة من باب حسن ظنّك بهم، وخفف عنهم الأعباء والضرائب، ولا تستكرهم على الأعمال والسخرة وما ليس لهم به طاقة، فحسن الظن يريحك من تعب كبير في سياسة الناس، فإن أحق الناس بحسن ظنك هم أولئك الذين حسن سلوكهم، والعكس بالعكس.
احترام العادات الاجتماعية وتحسينها ومشاورة الكبار:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ الْأُمَّةِ، وَاجْتَمَعتْ بِهَا الْأُلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ وَلاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الْأَجْرُ بِمَنْ سَنَّهَا وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا. وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ".
إيّاك يا مالك أن تلغي سنّة حسنة عمل بها الأقدمون وقبلها كبار القوم وأفاضلهم، والرعيّة ملتزمة بها وتجلّها، وإيّاك أن تسن سنة قبيحة فيكون لك وزلاها ووزر من عمل بها، وأكثر من مجالسة العلماء، ومناقشة أهل الحكمة والعرفان، فذلك أصلح للبلاد والعباد.
كيف تصبح الطبقيّة حالة صحيّة في المجتمع؟
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَ إلاَّ بِبَعْضٍ، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ([45]) وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ سَلَّمَ عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً".
الطبقيّة هي أمر حتمي في أي مجتمع، وإن الزّعم بإزالتها ومحاربتها هي وهم صرفٌ، لكن نستطيع أن ننظم هذا التفاوت لصالح البلاد، فالمجتمع مؤلف من جندٌ وقضاة وعمّالٌ ودافعو الضرائب، والتّجار والصناعيين، ومنهم أهل الطبقات المعدمة وأصحاب الحاجات، وكل طبقة فيه قد قسم الله لها نصيبها من الرّزق وعليها بما يقابله فروض واضحة في القرآن وسنّة النّبي (ص)، وعلينا نحن كحكومة حفظ ذلك.
كيفيّة التعامل مع كلّ طبقة:
أمّا الجنود فهم حصن الله للوطن، وهم زينة الوالي ويده القويّة وعينه الساهرة، فلا مجتمع هانئ من دونهم، وهؤلاء لا يستطيعون المتابعة في عملهم إذا لم يكن لهم نصيبهم من الرزق مما تجمع الدولة من خراج، والقضاة الذين يقيمون العدل بين الرّعية، ولا صلاح للأمة بغيرهم، فهم رعاة الأمانات وأصحاب الأحكام التي بها يسير مركب الناس. ولا قوام للدولة إلا بالتجار والصناعيين فهم الذين يقيمون أسواق الناس ويلبون احتياجاتهم، ويرفقون بالناس ويكفونهم همّ البحث عمّا يريدونه ويبغوه بجد واجتهاد. ثمّ تأتي أخيراً طبقة أصحاب الحاجات الذين يجب عليك مساعدتهم وإيلائهم الاهتمام اللازم، وعليك أنت كوالٍ إعطاء كل من هؤلاء بقدر ما يقدّمه لمجتمعه، مستعينا بالله على ذلك، ومقسماً ما بين يديه بينهم قلّ أو كثر.
سياسة الحاكم مع القوات المسلحة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو([47]) عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ. ثُمَّ الْصَقْ بَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالْأَحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ([48]) مِنَ الْعُرْفِ([49]) .ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَحُسْنِ الظَّنّ بِكَ.وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ. وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ([50]) بِمَا يَسَعُهُمْ يَسَعُ مَنْ وَرَائَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ([51])، حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْك"َ.
عليك يا مالك أن تولي قوّاتك المسلّحة الاهتمام الكافي، وأن تؤمّر عليهم أكفأهم وأصلحهم، وأكثرهم عفّة وطُهراً وسماحة، لا يغضب بسرعة ويقبل الأعذار، ويرأف بالضعيف ويحنو ويثني على الأقوياء، ليس دموياً يحب السفك، وليس ضعيفاً جباناً، وقرّب إليك منهم أهل المروءة والأصل، وأبناء العائلات الشريفة المعروفة بصلاحها، وسوابقها الحسنة، وأهل النجدة والشجاعة والإقدام، والجود والكرم، فهؤلاء هم جماعة الكرم، وفروع للمعروف. وعليك تفقّد أحوال الجند تفقّد الوالد لأبناءه، ولا تستخسر فيهم شيئاً مما أعطيتهم إيّاه، ولا تندم على لطفٍ عاملتهم به، فهذا الذي تفعله يجعلهم ناصحون لك مقبلين على طاعة أوامرك، ويحسنون بك ظنا، ولا تنسى أن تتولى أصغر الأمور التي تهمّهم ناهيك عن أعظمها، واجعل قادة كتائبك من واسى الجند وقاسمهم ما لديه في عزّ المعاناة، وأكرمهم عطاءً لزملاءه، والذي يتفقّد أحوال من خلّفهم الجند من وراءه من الأهل والولد، حتّى لا يشغل المقاتل غير هم واحد وهو الذود عن حياض الأمة وحمايتها، فعطفك هذا يجعلهم يعطفون عليك أيضاً.
سياسة الحاكم مع قادة الجيش الحكام
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ. وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ الْأُمُورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ .فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلى ذَوُو الْبَلاَءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ()، إِنْ شَاءَ اللهُ. ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ([52]) امْرِىءٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِىءٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلاَضَعَةُ امْرِىءٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ عَظيِماً".
يامالك، إنّ أكثر ما يريحك في إدارة البلاد هو إشاعة العدل، فذلك يورثك محبّة الرّعية، فالمحبة انعكاس لسلامة النيّة، ولا تؤمن نصاحهم إلا بمقدار ما يحيطونك من مودّة، وعدم تكلّفهم بالانخراط ضمن سياسة الدولة، وعدم ترقّبهم لانتهاء عهدك، لذلك حقق لهم آمالهم، وأثنِ عليهم، وتعداد انجازاتهم، تشجّع شجاعهم، وتحفّز المتقاعس، واعلم أن لكل منهم عمله، فإياك أن تحمّل أحداً وزر غيره، ولا تترك أحداً قبل أن يتمّ مهمّته. وإيّاك أن تقلل مهام الأشراف، وتعظم مهام الفقراء.
سياسة الوزراء والولاة في القضايا المشتبهة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك([53]) من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة".
يا مالك، أرجع ما يصعب عليك من المشاكل والمصاعب إلى الله ورسوله، فالله سبحانه وتعالى يكفي عبده لهذه الناحية، فالردّ يعني اللجوء إلى كتاب الله بتدبر ووعي، والأخذ بسنة رسول الجامعة غير المفرّقة.
سياسة الحاكم في اختيار السلطة القضائية:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ([54])، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ([55])، وَلاَ يَحْصَرُ([56]) مِنَ الْفَيْءِ([57]) إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ([58]) نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقصَاهُ([59]) أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ([60])، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً([61]) بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَأَصْرَمَهُمْ([62]) عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ([63])، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، أُولئِكَ قَلِيلٌ. ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ([64]) قَضَائِهِ، وافْسَحْ([65]) لَهُ فِي البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى، وتُطلب به الدنيا".
يا مالك، نصّب من أفضل الرعيّة قضاةً للناس، ممن لا يعدم الوسيلة، ولا يضطرّه إلحاح الخصوم لتغيير قناعاته، ولا يتمادى في الخطأ، ولا يخجل من التّراجع عن الخطأ، ولا يتضايق من مراجعة المراجعين، ويكون لديه حسن متابعة للملفات والقضايا، ويصبر حتى استجلاء الحقائق، وأكثرهم تشدداً في الحكم بعد الاستيضاح، ممن لا يستهويه المديح، ولا يفتح المجال للإغراءات، صحيح أنّهم قلّة، ولكنهم موجودون فابحث عنهم، ثم أكثر من تحويل القضايا إليه، وأعطه بمقدار تعبه هذا وأجزل له العطاء، مما يسدّ حاجته ويكفيه احتياج النّاس، وقرّبه منك أكثر من جميع أهلك وأصدقائك حتّى يطمئن من الدّس عندك من قبل النمامين، فإن الدين كان قبل ذلك مستولى عليه من قبل المتاجرين بالدين، وأهل الدنيا.
سياسة الحاكم مع الولاة والمحافظين:
يا مالك، جرّب عمّالك وموظفيك ومدراءك ووظفهم تحت الاختبار، وإياك أن توظّفهم لأجل خاطر أحد، أو أن تستبد برأيك دون مشاورة في أمرهم، فهذا من ضروب الظلم وخيانة الأمانة التي استأمنتك عليها، وعليك أن توظف أهل الخبرة والحياء من أبناء العائلات المشهورة بالصلاح، والسابقة في الإسلام، فهم أهل مكارم الأخلاق، وأهل صيانة العرض وهم أقل الناس طمعا بالدنيا وزينتها، وهم دائما ينظرون في عاقبة أمرهم، ثم أوسع لهم في الرزق كي يقطع يد الفساد من الوصول إليهم، ويكون ذلك حجة لك عليهم في حال خانوا الأمانة.
جهاز المخابرات الخاص برئيس الدولة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ([71]) لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّة. وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ونَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ."
عليك يا مالك، أن تتابع شؤون موظّفيك، وترسل عليهم استخباراتك الذين تنتقيهم من أهل الصّدق، فإن متابعتك لأعمالهم في السّر يحضّهم على التزام جانب الصواب وعدم الإفساد، وظلم النّاس، وعليك أن تكون متحفظّاً من هؤلاء الأعوان الذين تأتيك أخبار العيون عن خيانتهم، فعليك تأديبه بالعقوبة، وأن تقيله جزاء ما صنعت يداه، وأن يُعرف عند الناس بالخائن، وتلحق به معرّة هذه الخيانة حتّى يكون عبرة لسواه.
السياسة المالية والضرائبية:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ. وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً.فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ([72]) الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ([73]) عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ([74]) لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ([75]) أَهْلِهَا، إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَر"ِ.
وعليك يا مالك، أن تصرف الضرائب التي تجمعها فيما يصلح حال الرّعيّة، فإن في ذلك صلاح لهم وللحكومة، ولا يمكن أن يكون صرف الضرائب إلا لصالحهم، وليكن توجّهك إلى زيادة الإنتاج في الإقليم أكثر من توجّهك لجمع الضرائب، لأن في الأوّل زيادة حتميّة للثاني، أما فرض الضرائب على الناس من غير انتاج، ففي ذلك مهلكة للحكومة وللرعيّة وللحاكم في آن معا. وعليك أن تخفف عنهم الضرائب ما استطعت إذا ألمّت بهم النوائب والمصائب كالقحط والفيضان، وإيّاك أن تستكثر ما ترفعه عن كاهلهم آنذاك، فهو ذخيرة سيردونها عليك حتماً حالما تنجلي الكربة، بما أسلفت لهم من الحلم والعدل والتخفيف عنهم. فلا بدّ أن يكون ذلك مدعاة لردّ الدين لك عندما تحتاج منهم جهداً مضاعفاً أيّام الرّخاء، فقد عدوا منك العدل والسماحة والمعذرة. ففقر الرعيّة دليل ظلم الرّعاة.
ديوان الحاكم أو الجهاز الخاص به:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَالِحِ الْأَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ([76]) الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِىءَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَءِ([77])، وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوابِ عَنْكَ، وَفِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفسِهِ فِي الْأُمُورِ فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بَقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ. ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ([78]) وَاسْتِنَامَتِك([79]) وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ([80]) وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، لَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْأَمَانَةِ شَيْءٌ، وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وَلُوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وَأَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَلِمَنْ وَلِّيتَ أَمْرَهُ.وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ() عَنْه أُلْزِمْتَهُ".
أمّا الدواوين يا مالك، فعليك أيضاً اختيار أفاضل النّاس لها، خاصةً من تستأمنه على رسائلك الخاصّة التي فيها خططك واستحكاماتك، فاجعل كاتبك ممن لا يفسده المنصب، أو يجعله قربه منك مجترأً عليك في حضرة مجلسك، لا ينسى أن يعرض لك البريد مهما ازدحمت أمامه المهام، ولا يغفل عن كتابة الردود المناسبة وعرضها عليك، وعطيك الخلاصة المناسبة لكل هذا وذاك، ولا يضعف رأياً لك ولا يتأخر بالنّصح لك فيما استشكل عليك، يعرف قدر نفسه فيقف عنده، فالجاهل قدر نفسه أولى أن يجهل قدر غيره، لا تعتمد في اختيارهم على الشكل أو الفراسة، وعلى اطمئنانك لمواهبهم الظاهرة، فالناس يدّعون ويمثّلون أمام الولاة لكي يحصلوا على مكاسب منهم، دون أن يكون لهم في ذلك غاية النّصح لهم أو مساعدتهم بأمانة، ولكن عليك مراجعة ملفاتهم في خدمة الولاة الصالحين قبلك أو آثامهم في خدمة الطالحين، فاستعمل النوع الأول واستبعد النوع الثاني، فهؤلاء هم واجهة حكمك ودليلٌ على حسن أداءك لأمانة الله في الرعيّة، واجعل عليهم رؤساء دواوين لا يستطيع موظفوه استمالته عن الحقّ، ولا يضيع لكثرة المهام، ويستطيع تصويب كلّ ما في رسائلك من أخطاء سهوت عنها.
سياسة الدولة مع التجار والكسبة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَالْمُتَرَفِّقِ([81]) بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا([82])، وَلاَ يَجْتَرِؤونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ([83])، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِكَ. وَاعْلم مَعَ ذلِكَ أَنَّ فِي كَثِيٍر مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً([84]) قَبِيحاً وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ .فَامْنَعْ مِنَ الْاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَنَعَ مِنْهُ. وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً([85]) بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ([86])".
يا مالك، أوصيك بالتّجار وذوي الصناعات خيراً، المقيم منهم، والذي يعاني من مشاكل ماليّة، أو صحيّة، فهؤلاء مادّة كلّ نهضة، وهم الذين يأتون بالرّخاء للإقليم من آخر أصقاع الأرض، حيث لا يستطيع النّاس إتيان الوسائل والبضائع، يأت بها هؤلاء للنّاس، هؤلاء هم سلّمك الذي لا تخاف من الصعود عليه إلى الرّفعة والرّخاء، سلام واضح سليم على أسس ثابتة لا يمكن أن ينقضه أحد، وعليك تفقّد أمورهم سواءً بقربك وفي أقاصي البلد، وعليك أن تعلم أنّ الكثير منهم يعانون مع الغلاء وتأمين المواد، وسطوة المحتكرين، الذين حاربهم الإسلام، وضيّق عليهم رسول الله (ص)، واحرص أن تكون بيوعه سمحة لا غرر فيها ولا غش، وليس فيه ظلم لطرف على طرف، وأعلن عن معاقبة المحتكرين، فمن ثبت عليه الاحتكار بعد ذلك فعاقبه بشدّة.
سياسة الدولة مع التجار والكسبة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَالْمُتَرَفِّقِ([87]) بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا([88])، وَلاَ يَجْتَرِؤونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ([89])، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِكَ. وَاعْلم مَعَ ذلِكَ أَنَّ فِي كَثِيٍر مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً([90]) قَبِيحاً وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ .فَامْنَعْ مِنَ الْاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَنَعَ مِنْهُ. وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً([91]) بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ([92])".
يا مالك، أوصيك بالتّجار وذوي الصناعات خيراً، المقيم منهم، والذي يعاني من مشاكل ماليّة، أو صحيّة، فهؤلاء مادّة كلّ نهضة، وهم الذين يأتون بالرّخاء للإقليم من آخر أصقاع الأرض، حيث لا يستطيع النّاس إتيان الوسائل والبضائع، يأت بها هؤلاء للنّاس، هؤلاء هم سلّمك الذي لا تخاف من الصعود عليه إلى الرّفعة والرّخاء، سلام واضح سليم على أسس ثابتة لا يمكن أن ينقضه أحد، وعليك تفقّد أمورهم سواءً بقربك وفي أقاصي البلد، وعليك أن تعلم أنّ الكثير منهم يعانون مع الغلاء وتأمين المواد، وسطوة المحتكرين، الذين حاربهم الإسلام، وضيّق عليهم رسول الله (ص)، واحرص أن تكون بيوعه سمحة لا غرر فيها ولا غش، وليس فيه ظلم لطرف على طرف، وأعلن عن معاقبة المحتكرين، فمن ثبت عليه الاحتكار بعد ذلك فعاقبه بشدّة.
سياسة الحاكم مع الطبقة الفقيرة:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثُمَّ اللهَ، اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى([93]) وَالزَّمْنَى([94])، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً([95]) وَمُعْتَرّاً([96])، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ([97]) مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ([98]) صَوَافِي([99]) الْإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ([100])، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ([101]) لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ. فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ([102]) عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ([103])، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ([104]) وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِأُولئِكَ ثِقَتَكَ([105]) مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالْإِعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَىيَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ.وَتَعَهَّد ْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ([106]) مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ".
يا مالك، اتّق الله في الطبقات الفقرة، من الفقراء والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤس والعاهات، ففيهم نزل قول الله "وأطعموا القانع والمعترّ([107])"، فاحفظ حقّ الله فيهم وأمانته التي وضعها في عنقك، فاجعل لهم نصيباً من دخل بيت المال، ونصيباً من الغنائم في كلّ غزوة للجيش، البعيد منهم والقريب، ويجب أن تراعي حق الجميع، فلا يشغلك عنهم تنعّمك فيما أنت فيه من جاه وسلطة، فإنّه ليس لك عذر في إغفال أمورهم بحجّة أنّك منهمك في الأمور العظيمة، فلا يخرجون من دائرة اهتمامك، ولا تتكبر عليهم، وتفقّد أمور من لا أحد يصل إليه منهم ممن لا تحتمل العين رؤيته بسبب عاهة وقبح، وتحتقره الناس لشكله أو لمرضه، ففرغ لهؤلاء أكثر رجال حكمك ثقةً وتواضعاً وخشية لله، وأوصه ألا يغفل عنهم ويبلغك بأمورهم، ثم تقرّب إلى الله بهم، فهؤلاء بحاجة للإنصاف أكثر من غيرهم، وأبرئ ذمّتك أمام الله في أمرهم بإيصال حقوقهم إليهم، وتكفّل الأيتام والقُصّر والضعفاء، الذين لا يستطيعون حتّى أن يسألوا الناس حاجاتهم، صحيح أنّ ذلك ثقيل على الولاة، ولكن قد يخفف الله عنك إذا أنت قصدت في خدمة هؤلاء وجهه.
سياسة الحاكم مع مراجعيه:
واجعل لذوي الحاجات والمطالب قسماً من وقتك تخصصه لمراجعاتهم، وأبعد عنهم شرطتك وحرّاسك حتّى يأخذوا راحتهم بالكلام، فوصيّة رسول الله أن نأخذ بحق الضعيف من القويّ، واحتمل منهم ثقل الكلام والشكوى، وأبعد عنهم الضيق وما يشتكون منه، يتكفلك الله برحمته، ويوجب لك ثوابه. فأعط الحقوق بامتنان وهناءة، وإذا لم تعطِ صاحب الحاجة فاعتذر منه. ثم عليك مهام أخرى، كإجابة المحافظين على الأمصار التابعة لك بما لا يستطيع كتّابك إعطاء قرار به، ويحتاج لقرار مباشر منك، من الأمور التي تصعب على معاونيك، ولا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد، ولا تنسى مواقيت اللقاء مع الله، ولكن اعلم أنّك ما دمت تؤدّي مهامك بنية التقرّب إلى الله فإنّك تعتبر في صلاة، فأعط الله كلّ وقتك تسلم، مهما بلغ بك التعب والإرهاق، وإذا وقفت في النّاس إماماً للصلاة، فلا تطيل صلاتك ولا تختصرها، فإنّ في النّاس المريض وصاحب العلّة، ولقد أوصانا الرسول (ص) أن نصليّ صلاة أضعف النّاس، وأن نكون رحماء بالنّاس.
يا مالك، إيّاك أن تبتعد عم رعيتك، فإن ابتعادك عنهم هو قلّة دراية بالحكم والسياسة، فابتعادك عنهم يجعلهم غير عالمين بما يحدث حولهم، فيخطئون في التقدير، وربّما يرتكبون عظائم الأمور ظناً منهم أنّها صغيرة، ويختلط لديهم الحقّ بالباطل لابتعادك عنهم وعدم توضيح الأمور لهم، وكذلك فإنّك لن تعرف ما يقترفون لذات السبب. وهناك صفات تعرف بها الحق وتكشف الكذب، فإمّا إنّك رجل كريم، فلم تحتجب عن البذل؟ أو إنّك رجل تمنع العطاء، حينها سيسرع الناس إلى الكفّ عن مراجعتك ليأسهم من لقائك، وأنت في موقعك أحوج لاستقبال حملة المظالم، وطالبي الإنصاف، وفي ذلك إعطاء للحاشية التي حولك الفرصة كي تتصرّف على هواها، فعليك إذاً أن تحسم أمرك، وتلتزم جانب التقرّب من النّاس وإفساح المجال لهم بلقاءك على الدّوام.
سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته:
يا مالك، إيّاك أن توزّع أراضي الولاية على أقاربك وأهلك تجعلها لهم إقطاعيّة، ولا تجعل له عهداً يدر عليه منفعة من منافع العامّة يختص بها وحده، يضرّ بها المصلحة العامّة كعقود الرّي أو توريد المؤن، فينتفعون به دون الناس، فيهنئون هم بما أعطيتهم، بينما أنت يكون عليك وزر ذلك في الدنيا والآخرة. وعليك أن تلزم أهلك وخاصّتك بالحق، قريبهم وبعيدهم، واصبر على قلّة تفهمهم واستعن على ذلك بالله، واجعله لك ثواباً عند الله، فعاقبة ما تقوم به محمودة عند الله. وإن ظنّت الرّعية منك ظلماً من هذا القبيل، فصارحهم، وأظهر لهم عذرك، وأبعد عنك ظنونهم بمصارحتك إياهم لأسباب أفعالك، ففي ذلك ترويض للنفس على الصراحة والصدق والتواضع للناس، وتفع عنك ملامة الناس، وتعوّدهم أيضاً على الشفافيّة والصدق بما أنك قدوة لهم.
سياسة السلم والحذر مع العدو والإلتزام الكامل بالإتفاقيات:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضىً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً([133]) لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكِ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّل([134])، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنّ .وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوّ لَكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً([135])، فَحُطْ([136]) عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً([137]) دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً، مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشْتِيتِ آرَائِهِمْ، مِنَ تَعْظيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ. وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا([138]) مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ([139])، وَلاَ تَخْتِلَنَّ([140]) عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِىءُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ([141]) بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وَحَرِيماً([142]) يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ([143])، يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ([144])، فَلاَ إِدْغَالَ([145])، وَلاَ مُدَالَسَةَ([146])، وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ، وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تَجُوزُ فِيهِ الْعِلَلُ([147])، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ القَوْلٍ([148]) بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طَلِبَةٌ([149])، لاَتَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلاَ آخِرَتَك"َ.
يا مالك، إيّاك أن تردّ صلحاً دعاك إليه العدوّ وتأكّدت أن ليس فيه خديعة، فإنّ في الصلح راحة لجنودك، وراحة لك من هم الحرب، وأمنا للبلاد من آثار المعارك، ولكن مع ذلك ابق من عدوك على حذر، فربّما لجأ العدوّ إلى الصلح ليخدعك وتجعلك تغفل فينقضّ عليك، فكن حازماً في التيقّظ له، وأبعد عنك حسن الظّن بالعدو لأنّ ذلك مهلكة لك ولجيشك. ولكن إيّاك أن تكون أنت الناكل بالاتفاق مع عدوّك، إذا عاهدت عدوّك أو عقدت معه عقداً، فعليك الوفاء، واحفظ أمانتك، واجعل نفسك ضمانة لما عقدت عليه العهد، فإن أكثر ما اجتمع الناس في ذمّه هو نقض العهد، فحتّى المشركون كانوا يحفظون عهودهم، والمسلمون أولى بذلك. فلا تغدر وتخيس بعهدك، فالله هو الوكيل على العهود وهو الشاهد عليها، فلا ينقض بعهده إلا الشٌّقي. فلقد جعل الله العهد مسؤولاً، وجعله بين عباده ملجأً لهم من كيد بعضهم البعض، فلا إفساد ولا خيانة في العهود، فانتبه أن تعقد عهداً له العديد من الاستثناءات، وتشوبه الكثير من نقاط الغموض، فلا يأخذك عدوّك بالكلام المعسول، لكن استوثق وقدّم عهودك عن وضوح وجلاء وشفافية، فإياك أن تخالف عهدك وتفسخ عقدك لمجرّد أن ضاقت عليك الأمور، فصبرك على عهدك خير لك عند الله من غدرك بمن سالمك وصالحك.
تحذير الحاكم بشدة من سفك الدماء:
وأخيراً يا مالك، إيّاك أن تسفك الدّماء بغير حق، فإنّه لا شيء أدعى إلى غضب الإله من ذلك، فالله سبحانه وتعالى يحكم بين الناس فيما قتلوا وأزهقوا من أرواح، ولا عذر لك عند الله ولا عندي فيما فعلت من ذلك بغير حق، وإيّاك أن تظن أم المُلك يقوى بسفك الدّم، بل على العكس إنّه يوهن الملك ويضعفه. فإذا أتوا إليك بمحرم، وأقمت عليه الحدّ، فلم يحتمل الجلد أو أخطأ السيف أو تعرّض للضّرب بغير محلّه، فعليك تعويضه أو تعويض أهله، ولا يحملنّك مقامك على التكبّر عن ذلك. وإياك يا مالك أن تعجبك نفسك بسلطانها، وأن تميل إلى تقبّل المديح والكلام المنمّق في عزّتك وسلطانك، فإنّ ذلك باب من أبواب الشيطان ليمحق إحسانك. وإيّاك أن تمنّ على النّاس بما تقدّمه لهم من خدمة، فإنّه واجبك تجاههم لا أكثر، وإيّاك أن تعظّم ذلك في عينك أو في عيونهم لأن ذلك باطل، وإيّاك أن تعدهم بشيء ثمّ تخلف وعدك فالخلف يوجب كراهيّتك كما قال الله تعالى. وإياك واستعجال الأمور قبل أوانها، أو الاستبطاء فيها عند أوانها، أو الإصرار عليها إذا استحالت، أو التعب والتأجيل إذا حانت، فلكل أمر زمان ومكان وعليك أن تضع كل شيء في مكانه الصحيح. وإيّاك يا مالك وأن تحتكر لك بالسلطة التي خوّلتك إيّاها ما الناس فيه مشتركون، وأن تهمل أشغالك وأعمالك، فإّنه سيصل أمر ذلك لي وسأقيلك وسأنصف منك من ظلمتهم بإهمالك. يا مالك تمالك نفسك وخفف من حميّتك وعزّة نفسك، واملك غضبك، وزلات لسانك، وإيّاك وأن تقرر بردّ الفعل، وإنّما انتظر قليلاً حتى يبرد غضبك ويعود إليك رشدك، وإنّ هذا الأمر الذي أنت مقدم عليه ليس سهلاً، فعليك أن تستعين بالله على ذلك، وأن تقتدي برسوله وبما علّمتك إياه وبما سمعته عنّي، وأن تقتدي أيضاً بسيرة الحكّام العادلين قبلك، وإنّي قد عهدت إليك هذا الأمر لما عرفته عنك من خصال حميدة، فتوكل على الله وامض إلى شأنك.
[2]تمرّد النفس، وميلها نحو الشهوات.
[6]أي أن الله أعطاك ولايتهم، وأمرك أن تكفيهم حاجاتهم.
[9]هفوة بدرت من أحد الرّعية.
[10] وجدت لها عذراً مخففاً.
[13]اغترار وزهو بما لديك من عظمة.
[20] منافسة الله في أسماءه.
[29]احلل عقد البغض والكراهية من قلوب النّاس.
[33] الذي يسعى بمعايب النّاس.
[40]يتشدّقون بكلام المديح الكاذب.
[42] الاعتزاز بغير موضعه.
[49]الأعمال المقبولة من المجتمع (الأعراف والتقاليد).
[51]الأهل الذين يتركهم المحارب خلفه حين يلتحق بوحدته.
[54] لا يستطيعون ثنيه بالإلحاح عليه.
[57] من الرجوع إلى الصواب.
[59] لا يقبل بالقليل من الفهم، بل يتابع القضية حتّى يفهمها.
[60] يتوقف عن التقرير في الشبهات.
[62] متشدد عند وضوح القضيّة.
[64]أوله الكثير من القضايا.
[65] أعطه من الأجر ما يرضيه.
[68] استئثاراً بالأمر دون مشاورة.
[69] إن ذلك نوع من أنواع خيانة الأمانة، والظلم.
[78] الذكاء الفطري والمعرفة الغريزيّة.
[86]لا تسرف في العقوبة، أي لا تظلم من لا يثبت عليه ذلك.
[92]لا تسرف في العقوبة، أي لا تظلم من لا يثبت عليه ذلك.
[104] تكره العين النظر إليه
[105] الأشخاص الذين تثق بهم
[107] سورة الحج الآية 36.
[117] لا يستطيعون الإفتاء فيه
[124] يأخذ منك عهداً بمنفعة
[133] استراحة من عناء الحرب
[138] جاءهم البلاء في الحروب
[147] ضعيفاً له استثناءات عديدة
[148] الخداع بالكلام المعسول
[151] كنت تجلد أحداً فلم يحتمل