قال امير المؤمنين (عليه السلام):
"نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنا عَلَى مَا يَكُونُ، وَنَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ في الأدْيَانِ([1])، كَمَا نَسَأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الأبْدَانِ. أُوصِيكُمْ عِبادَ اللهِ بِالرَّفْضِ لِهذهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، وَالْمُبْلِيَةِ([2]) لأجْسَامِكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا([3])، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْر([4]) سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَأَمُّوا([5]) عَلَماً([6]) فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ، وَكَمْ عَسَى الْـمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ([7]) أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا! وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ([8])، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ يَحْدُوهُ([9]) فِي الدُّنُيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا! فَلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا، وَلاَ تَعْجَبُوا بَزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَلاَ تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع، وَزِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَال، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إِلَى نَفَاد([10])، وَكُلُّ مُدَّة فِيهَا إِلَى انْتِهَاء، وَكُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاء. أَوَلَيْسَ لَكُمْ في آثَارِ الأوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ([11])، وَفِي آبَائِكُمُ الْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ! أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ، وَإِلَى الْخَلَفِ الباقِي لاَ يَبْقَوْنَ! أوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُمْسُونَ ويُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَال شَتَّى: فَمَيِّتٌ يُبْكَى، وَآخَرُ يُعَزَّى، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً، وَعَائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ([12])، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَليْسَ بِمَغْفُول عَنْهُ([13]); وَعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي([14])! أَلاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ([15])، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطِعَ الأمْنِيَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ([16]) لِلإعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، وَاسْتَعِينُوا اللهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ"
([17]).
[1] أن يكون ديننا سالماً كما هي أبداننا سليمة.
[3] ما يتوهم لكم من تجديدها لأجسامكم، لكنها في الحقيقة تهلككم.
[7] وكم يلزم الذي يسعى إلى هدفه حتّى يصل؟
[8] وكم من شخصٍ يسعى إلى هدفه وليس له غير يومه الذي هو فيه، أي أنّ أجله لن يمهله حتّى يصل إلى هدفه.
[9] الموت يرافق صاحبه ويمشي إلى جواره متحيناً ساعة الأجل حتى ينقّض عليه.
[12] محتضر تخرج نفسه من بين جنبيه.
[13] حتّى وإن كنت غافلاً عن مصيرك، فإنّك غير مغفولٍ عنك، وغير متروك.
[14] كما حدث مع الماضين سيحدث معنا.
[16] المساورة، الحوم حول الفريسة، وشبهها بالحوم حول المعصية مع تهيبها، لذلك عليك في تلك اللحظة تذكّر الموت كي لا ترمي بنفسك فيها.
[17] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٧ - الصفحة ٨٠.