من أعظم خطب الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، يصف فيها الدنيا أبلغ وصف، يدلل على مباهجها الزّائفة، ووعودها الكاذبة، في هذه الخطبة الكثير من العبر، والدلالات العظيمة التي أوصلها الإمام إلى أصحابه، بعبارات فيها من البلاغة والفصاحة ما يُعجز الألباب، استعمل فيها التّضاد، والتنويه، والكناية، وكافّة أدوات البيان، بأسلوب بديع يصعب تقليده، عظة عظيمة من إمام عظيم، قال عليه السلام:
"أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ([1])، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ([2])، وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ، وَتَحَلَّتْ بِالآمَالِ([3])، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا([4])، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ([5]) ضَرَّارَةٌ([6])، حَائِلَةٌ([7]) زَائِلَةٌنَافِدَةٌ([8]) بَائِدَةٌ([9])، أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ([10])، لاَ تَعْدُوـ إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا([11]) والرضى بِهَا ـ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: (كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماَءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً([12]) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء مُقْتَدِراً)([13]).لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَة([14]) إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ([15]) بَعْدَهَا عَبْرَةً([16])، وَلَمْ يَلْقَ منْ سَرَّائِهَا بَطْناً([17]) إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً([18])، وَلَمْ تَطُلَّهُ([19]) فِيهَا دِيمَةُ([20]) رَخَاء إِلاَّ هَتَنَتْ([21]) عَلَيهِ مُزْنَةُ([22]) بَلاَء. وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ([23]) وَاحْلَوْلَى([24])، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى([25]) لاَ يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا([26]) رَغَباً([27])، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ([28]) مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً! وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْن، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ([29]) خَوْف! غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ، فَان مَنْ عَلَيْهَا، لاَ خَيْرَ في شَيْء مِنْ أَزْوَادِهَا([30]) إِلاَّ التَّقْوَى. مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ([31])، وَزَالَ عَمَّا قَلِيل عَنْهُ. كُمْ مِنْ وَاثِق بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ([32])، وَذِي طُمَأْنِينَة إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَة([33]) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَة([34]) قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً! سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ([35])، وَعَيْشُهَا رَنِقٌ([36])، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ([37])، وَحُلْوُهَا صَبِرٌ([38])، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ([39])، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ([40]) حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْت([41])، وَصَحِيحُهَا بَعَرَضِ سُقْم([42]) مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ([43])، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ([44])، وَمَوْفُورُهَا([45]) مَنْكُوبٌ([46])، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ([47]). أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً([48])، وَأَبْعَدَ آمَالاً([49])، وَأَعَدَّ عَدِيداً([50])، وَأَكْثَفَ جُنُوداً تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّد([51])، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَار([52])، ثُمَّ ظَعَنُوا([53]) عَنْهَا بَغَيْرِ زَاد مُبَلِّغ([54]) وَلاَ ظَهْر قَاطِع([55]). فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ([56]) لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَة([57])؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَة؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بَالْفَوَادِحِ([58])، وَأوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ([59])، وَضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ([60])، وَعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرَ([61])، وَوَطِئَتْهُمْ بَالْمَنَاسِمِ([62])، وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ) ([63])، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَان لَهَا([64])، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا([65])، حِينَ ظَعَنُوا([66]) عَنْهَا لَفِرَاقِ الأبَدِ. هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ([67])؟ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْكَ([68])؟ أوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ؟ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ؟ أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ؟ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا([69])، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَل مِنْهَا! فَاعْلَمُوا ـ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ([70]) عَنْهَا، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ (قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً): حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً([71])، وَأُنْزِلُوا الأجْدَاثَ([72]) فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً([73])، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ([74])، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ([75]) جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً([76])، وَلاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً([77])، وَلاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً([78])، إِنْ جِيدُوا([79]) لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا([80]) لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ([81])، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ([82])، مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ([83])، وَقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ([84])، وَجُهَلاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ([85])، لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ([86])، وَلاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ([87])، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الأرْضِ بَطْناً([88])، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالأهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاؤُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)"([89]).
[2] تحبّ العجلة في كلّ أحوالها.
[3] تزينت بالآمال، أي بالأوهام.
[5] تغرّ النّاس، فيطمئنوا إليها.
[8] ليست كافية، فرزقها ينفد.
[11] أي أنها في أفضل حالاتها تكون وهماً وسراباً زائلاً.
[12] حطاماً، كبقايا التبن بعد الحصاد.
[13] سورة الكهف، الآية 45.
[23] أصبح جانب منها عذباً لذيذاً.
[25] أصبح جانب آخر منها مراً كالوباء.
[32] كم أفجعت الواثقين بها، والمستأمنين شرّها.
[35] متداول، على مبدأ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.
[40] حبالها بالية. أي من تمسّك بها سقط.
[41] الحيّ فيها ينتظر موته.
[42] والمعافى فيها ينتظر زوال صحّته.
[43] الأملاك فيها عرضة للسلب والنّهب، لذلك يبقى صاحبها في حالة خوف عليها، ويقضي الكثير من الوقت في حراستها.
[44] العزيز الذي ينتصر له الكثيرون، سيأتي عليه يوم ويغلب ويذلّ.
[46] تأنيها النكبات وتبددها.
[47] الجار عند العرب آمن، لا أحد يحاربه، لأنه بحمى جيرانه، غير أنّ من يجاور الدنيا لا تجيره، بل على العكس تتركه لمصيره.
[48] آثارهم وأوابدهم أبقى وأدوم من آثاركم.
[49] خططوا للمستقبل أكثر منكم.
[51] عظّموا الدنيا بشكل لم يسبقهم إليه أحد.
[52] وفضّلوها على الآخرة.
[54] يسد الرّمق. أي يشبع.
[55] ظهر مطيّة يُرتحل عليه.
[56] تكرّمت عليهم، من السّخاء.
[61] عفر الأنف، أي مرّغ أنوفهم بالتراب وذلّتهم.
[64] تنكّرت لأحبابها وعبيدها، وتخلّت عنهم.
[69] بئس الدار لمن لم يعتبرها عدواً له، ولم يأتمنها على نفسه.
[71] صحيح أنّهم محمولون إلى قبورهم، ولكن لا يعتبرون ركباناً، فالراكب له وجهة يذهب ويعود إليها، أم المحمول إلى قبره فسيبقى إلى البعث.
[73] صحيح أنّهم نزلوا القبور ولكن لا أحد يدعوهم ضيوفاً، فالضيف يُكرم، ويحتفى به، وهؤلاء متروكون لحشرات الأرض تأكل أجسادهم.
[74] الصخور المسطّحة توضع فوقهم لتحجبهم عن الأحياء.
[76] جيران لا يجيبون داعياً يستغيثهم.
[77] ولا يمنعون ظلماً ألمّ بأحد الأجداث في المقبرة. كالنبش وسرقة الجثث.
[78] لا يهمهم ما تعارف النّاس عليه.
[79] جاءتهم مكرمات من الأحياء.
[80] إن تُركوا فتيبست قبورهم.
[81] رغم امتلاء المقابر بهم، لكنّ كلّ واحد منهم في قبره وحيداً.
[83] لا يمكنهم زيارة بعضهم رغم تلاصق قبورهم.
[84] أصبحوا حلماء، لأنهم لم يعودوا يحملون الضغينة لأحد.
[85] جهلاء لكن لم يعودوا قادرين على الحقد.
[87] لا أحد يرتجي منهم دفاعاً عنه.
[88] استبدلوا مساكنهم الجميلة على سطح الأرض، بقبور موحشة في باطنها.
[89] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٧ - الصفحة ٢٢٦-228.