المدحُ: هو الثناءُ باللسان على الجميل الاختياري قصدًا، وقيل: هو الثناء باللسان على الجميل مطلقًا سواء أكان من الفواضل أم الفضائل.
أما الذم فـهو إظهارُ سوء بقصد التعيُّبِ؛ لأنَّ الصفات الذميمة سيئة عند المخاطب، مؤثرة فيه ظاهرة على لسانه، مدعاة للعيب وذم صاحبها.
وقد جاء نهج البلاغة مكتظًّا بأسلوب المدح والذم؛ لكونه أسلوبًا يتمتَّع بدلالاتٍ واسعة، بحيث يمنحُ المتكلِّم أُفقًا واسعًا في استعماله لأداء أغراضه، وقد حفل هذا الأسلوب مع أمير البلاغة والبيان الامام علي (عليه السلام) في نهجه الشريف بدلالات واسعة المضامين، بحيث أخرجه عن مستواه السطحي الضيِّق إلى الأفق الدَّلالي الرَّحب، الذي يتعدَّد بتعدِّد نمط القارئ وأسلوب قراءته، وهذا التعدَّد لا يعنى الفوضى في المعنى وإنَّما الانتظام في تبليغ الرسالة على مستوىً عالٍ من الخصوبة والبيان، وممَّا جاء على لسان الامام علي (عليه السلام) مستعملًا أسلوب المدح بـ (نعم) قوله:
"وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً، وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ"([1])
لم يمدح الامام علي (عليه السلام) هنا الدُّنيا، بل على العكس تماماً، فهو يذمّها، ويذمّ من جعلها له داراً دائمة، وموطناً أبدياً، لأنّه واهم، وهذا سيرث النّدامة في الآخرة، إنّ أمير المؤمنين يمدح من عرف قدر الدّنيا وأنّها دارٌ مؤقتة بحيث لا ينوي الإقامة بها؛ بل يجعلها قنطرةً يحفظ بها نفسه للعبور إلى غيرها، تلك الآخرة التي تستحقُّ أن تكون دارًا للسكن لا الدنيا الزائلة، ولا يتوقف القصد عند هذا الحد وإنَّما يصل إلى حدِّ الترغيب والنصيحة بأن ينظر الإنسان إلى الدُّنيا على أنَّها محطَّة مؤقتة سرعان ما يتمُّ الانتقال منها.
وممَّا قال (عليه السلام) في هذا الصدد أيضًا:
"وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ"([2])
فالإمام (عليه السلام) لا يمدح التصبُّر فحسب، وإنَّما يُرغب به ويدعوا إليه، فهو (عليه السلام) يبتغي بكلامه إثارة المتلقي باتِّباع هذه الخصلة، ويدعوه للتمسُّك بها، وهي دعوة خفيَّة مجازية على طريقة الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وفحوى هذه الدعوة بيان ميزات هذه الصفة الخلقية، ولمَّا يسمع السامع بها، فإنَّه يسعى إلى التمسِّك بها والسير على نهجها. وممَّا جاء عنه (عليه السلام) تحت هذا المفهوم قوله:
"نِعْمَ الطِّيبُ الْمِسْكُ، خَفِيفٌ مَحْمِلُهُ، عَطِرٌ رِيحُهُ"([3])
لم يكتفِ (عليه السلام) في هذا القول بمدح المسك فقط، وإنَّما ذكر مزاياه التي تجعل النفس تتوق إلى التعطُّر به، ومن تلك المزايا أنَّه خفيف المحمل وجميل الرائحة.
أمَّا الذم، فهو كذلك استبطن أغراضًا أُخرى غير إظهار المعايب والذم، وممَّا ورد من ذلك من كلام الامام علي (عليه السلام) ما جاء بقوله:
"وَلَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضاً"([4])
لم يقف قصد الامام (عليه السلام) عند ذمِّ الدُّنيا عندما تكون ثمنًا لتجارة العبد فحسب، وإنَّما يدعو إلى ضمنيٍّاً إلى الزهد فيها، وعدم التعلُّق ببهارجها الخداعة، وإلى مثل هذا القصد يرمي في قوله (عليه السلام):
"وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ، بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ! وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ"([5])
ينصح الامام علي (عليه السلام) في هذا النص، ويوجِّه ويُرشد المتلقي إلى الابتعاد عن الطعام الحرام، ولذلك فهو لا يذمّه فقط؛ بل يدعو إلى الابتعاد عنه نصيحةً للمتلقي من آثاره السيئة، ويستمر الامام علي (عليه السلام) بإرشاد النَّاس وتوعيتهم ونُصحهم عبر أسلوب الذم فيقول:
"بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ"([6])
لا يتبع الامام (عليه السلام) أسلوب الذم لينتقص العباد، وإنّما ليرشد الناس وينصحهم بأن يتولَّوا الخير بوصفه زادًا إلى الآخرة، وأن يبتعدوا عن العدوان والتقاتل فيما بينهم، وللغرض نفسه يقول (عليه السلام):
"وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ"([7])
ينصح الامام (عليه السلام) في هذا النص المتلقي بأن لا يكون تابعًا لأناس صفاتهم السوء، فعليه أن يتحقَّق ممَّن يتولاهم ويأخذ عنهم. وهكذا فإنّ أسلوب المدح والذم عند أمير المؤمنين يخرج عن الدلالة المباشرة، إلى ابتغاء التربية عبر النصح والإرشاد والوعيد والإنذار وغيرها.
[2] ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٢ - الصفحة ١٥٦٤.
[3] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٩ - الصفحة ٣٤١.
[4] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٢ - الصفحة ١٧٤.
[5] موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ - محمد الريشهري - ج ٦ - الصفحة ٢٢٣.
[6] 217 - شرح نهج البلاغة ج19 ـ ابن أبي الحديد.
[7] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٥ - الصفحة ١١٧.