الدنيا في كلام الامام علي (ع)

2023.12.26 - 10:42
Facebook Share
طباعة

  "الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ، وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ([1])، نَحْمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلَائِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ([2]) عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ السِّرَاعِ([3]) إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ، عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ، وَ كِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ. وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ([4])، وَوَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ([5])، إِيمَاناً نَفَى إِخْلَاصُهُ الشِّرْكَ، وَيَقِينُهُ الشَّكَّ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ، لَا يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ، وَلَا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ عَنْهُ. أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، الَّتِي هِيَ الزَّادُ، وَبِهَا الْمَعَاذُ، زَادٌ مُبْلِغٌ([6])، وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ([7])، دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ([8])، وَوَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ، فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا، وَفَازَ وَاعِيهَا. عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ تَقْوَى اللَّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مَحَارِمَهُ([9])، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ([10])، فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ([11])، وَالرِّيَّ بِالظَّمَإِ([12])، وَاسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ([13])، فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَكَذَّبُوا الْأَمَلَ، فَلَاحَظُوا الْأَجَلَ. ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَعَنَاءٍ، وَغِيَرٍ وَعِبَرٍ([14])، فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ([15]) لَا تُخْطِئُ سِهَامُهُ، وَلَا تُؤْسَى جِرَاحُهُ، يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ([16])، وَ النَّاجِيَ بِالْعَطَبِ([17] آكِلٌ لَا يَشْبَعُ، وَ شَارِبٌ لَا يَنْقَعُ([18])، وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لَا يَأْكُلُ([19])، وَيَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا مَالًا حَمَلَ، وَلَا بِنَاءً نَقَلَ، وَمِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، وَالْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا نَعِيماً زَلَّ([20])، وَ بُؤْساً نَزَلَ، وَ مِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ، فَلَا أَمَلٌ يُدْرَكُ، وَلَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا([21])، وَأَظْمَأَ رِيَّهَا، وَأَضْحَى فَيْئَهَا([22])، لَا جَاءٍ يُرَدُّ([23])، وَلَا مَاضٍ يَرْتَدُّ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُ. إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا عِقَابُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا ثَوَابُهُ، وَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ([24])، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ([25])، فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ([26])، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الْآخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا، فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ، وَمَزِيدٍ خَاسِرٍ. إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَمَا أُحِلَ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ. قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ، وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ، فَلَا يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ([27])، مَعَ أَنَّهُ وَاللَّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ وَدَخِلَ الْيَقِينُ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ([28]). فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ، مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ، وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ، الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي([29])، وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي، فَـ "اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ([30])"([31]).



[1] أي أن دائرة الحمد والنعم والشكر مستمرة متواصلة لا تنتهي.
[2] بطيئة.
[3] السريعة.
[4] من كشف عنه الحجاب.
[5] رأى ما يوعد بأم العين.
[6] مشبع.
[7] فعّال.
[8] أفضل وأكرم الدّعاة، سيدنا محمد (ص).
[9] التقوى جعلت عباد الله بعيدة عن المعصية.
[10] أوقات الهجير وشدّة الشمس.
[11] تعبهم هو السبيل لراحتهم في الآخرة.
[12] وظمأهم هو السبيل لشربهم.
[13] رأوه قريباً.
[14] تغيّر دائم فيه عبرة لمن يعتبر.
[15] أن القدر قد شدّ سهامه التي لا تخطئ على قوسه، والمعنى أنّ الموت لا يخطئ الناس.
[16] المرض.
[17] الفساد.
[18] لا يرتوي.
[19] ربّ جامع قوتٍ لم يمهله أجله حتّى يأكله.
[20] مضى كلمح البصر.
[21] ما أقلّه.
[22] أضحى أي نالته الشّمس، ففيئها زائف ولا يقي من الرمضاء.
[23] الموت إذا جاء لا يُردّ.
[24] ما تسمعه عن نعيمها أمتع من معاينته شخصيّاً.
[25] الوضع معكوس في الجنّة، فكل ما سمعت عنه ستعاين أفضل منه.
[26] فلتكتفوا من ملذات الدنيا بالسماع عنها، دون معاينتها.
[27] لا تنشغلوا بطلب الرزق المضمون عن عبادة الله المفروضة.
[28] عكستم سنّة الله، فصرتم تطلبون ما هو مضمون لكم (الرزق)، وتتركون ما فرض عليكم (العبادة).
[29] الأمل بالقادم.
[30] آل عمران، الآية 102.
[31] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٧ - الصفحة ٢٥٠.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى