قال الامام علي بن ابي طالب عليه السلام في خطبته التي بين أيدينا، حقائق علميّة عديدة، عجيبة غريبة، لم يطلع عليها أحد من الأوّلين. حتّى الآخرين، فإنّهم حين يتناولون مثل هذه المواضيع لا يجرؤون على اعتبار نظرياتهم تلك تخرج عن حالة التكهّن العلمي، أو الفرضيّة، بيد أن أمير المؤمنين (عليه السلام)، بما يملكه من علمٍ لدنّي([1])، تلقّاه مباشرة من سيّد الخلق محمد (ص)،فكلّ جملة من ذه الخطبة المقدّسة نظريّة علميّة فريدة من مدينة العلم والمعرفة، وننصح مراكز الدراسات الجيولوجية والبيولوجيّة بتدقيق كل معنى فيها لمن أراد أن يحصل على نتائج مبهرة ويحقق السبق العلمي في هذه المجالات. ويكفي أن نشير هنا إلى بعض لمسات الإعجاز العلمي الواردة في هذه الخطبة -وكلها إعجاز- فمثلاً قوله عليه (السلام): "وَعَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسَيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا"، وهنا الإشارة إلى دور الجبال الراسيات في تثبيت القشرة الأرضيّة، وهذا علم حديث لم يصل إليه الإنسان إلا مع أواخر القرن العشرين مع نظرية العالم مينغلر. وكذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَمُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الاْجْنِحَةِ بِذُرَا شناخيب الجبال"، عن طريقة التكاثر عند الصنوبريات بالبذور الطّائرة، وقوله (عليه السلام): "وَمَحَطِّ الاْمْشَاج من مسارب الأصلاب"، والتي تشير إلى مسألة الـ DNA المحمول في الأصلاب جيلاً بعد جيل في شبكة تناسل عجيبة عظيمة، وأخيراً وليس آخراً، إشارته (عليه السلام) إلى موضوع الأرومة الجينيّة للأصناف، وهي مسألة غاية في الدّق، إذا تعتبر من العلوم الحديثة جداً، في قوله: "أَوْ نَاشِئَةِ خَلْق وَسُلاَلَة".
قال "عليه السلام" من خطبته: "كَبَسَ الاْرْضَ عَلى مَوْرِ([2]) أَمْوَاج مُسْتَفْحِلَة([3])، وَلُجَجِ بِحَار زَاخِرَة([4])، تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ([5]) أمْواجِهَا، وَتَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِها([6])، وَتَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا، فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلاَطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا([7])، وَذَلَّ مُسْتَخْذِياً([8]) إِذْتَمعَّكَتْ([9]) عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا، فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ([10]) أَمْوَاجِهِ، سَاجِياً([11]) مَقْهُوراً، وَفِي حَكَمَةِ([12]) الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً، وَسَكَنَتِ الاْرْضُ مَدْحُوَّةً([13]) فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ([14]) وَاعْتِلاَئِهِ، وَشُمُوخِ أَنْفِهِ وَسُمُوِّ غُلَوَائِهِ([15])، وَكَعَمَتْهُ([16]) عَلَى كِظَّةِ([17]) جَرْيَتِهِ، فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ([18])، وبَعْدَزَيَفَانِ([19]) وَثَبَاتِهِ.فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا([20])، وَحَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الْبُذَّخِ([21]) عَلَى أَكْتَافِهَا، فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ([22]) أُنُوفِهَا، وَفَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا([23]) وَأَخَادِيدِهَا([24])، وَعَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسَيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا([25])، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ([26]) مِنْ صَيَاخِيدِهَا([27])، فَسَكَنَتْ مِنَالْمَيَدَانِ بِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا([28])، وَتَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً في جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا([29])، وَرُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الاُرَضِينَ وَجَرَاثِيمِهَا([30])، وَفَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَبَيْنَهَا، وَأَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا، وَأَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِها([31]). ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الاْرْض([32]) الَّتي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا([33])، وَلاَ تَجِدُ جَدَاوِلُ الاْنْهَارِ ذَرِيعَةً([34]) إِلى بُلُوغِهَا، حَتَّى أَنْشَأَ لَهَانَاشِئَةَ سَحَاب تُحْيِي مَوَاتَهَا([35])، وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا، أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِه([36])، وَتَبَايُنِ قَزَعِهِ([37]). حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ([38]) لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ، وَالْـتَمَعَ بَرْقُهُ فَي كُفَفِهِ([39])، وَلَمْ يَنَمْ وَمِيضُه([40]) فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِه([41])، وَمُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ، أَرْسَلَهُ سَحّا([42]) مُتَدَارَكاً، قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ([43])، تَمْرِيهِ([44]) الْجَنُوبُ دِرَرَ([45])أَهَاضِيبِهِ([46])، وَدُفَعَ شَآبِيبِهِ([47]).فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا([48])، وَبَعَاعَ([49]) مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْـمَحْمُولِ عَلَيْهَا، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الاْرْضِ([50]) النَّبَاتَ، وَمِنْ زُعْرِ([51]) الْجِبَالِ الاْعْشابَ، فَهِيَ تَبْهَج([52]) بِزِينَةِ رِيَاضِهَا، وَتَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْط أَزَاهِيرِهَا([53])، وَحِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ([54]) بِهِ مِنْ نَاضِرِأَنْوَارِهَا، وَجَعَلَ ذلِكَ بَلاَغا لِلاْنَامِ([55])، وَرِزْقاً لِلاْنْعَامِ، وَخَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا، وَأَقَامَ المَنَارَ لَلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا.فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ، اخْتَارَ آدَمَ (عليه السلام)، خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُأَوّلَ جِبِلَّتِهِ([56])، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، وَأَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيَما نَهَاهُ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الاْقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ، وَالْـمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ; فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ ـ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ ـ فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ، وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بهِ عَلَى عِبَادِهِ، ولَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ، مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهَ، وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بَالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَمُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً([57]); حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ([58]) عُذْرُهُ وَنُذُرُهُ([59])، وَقَدَّرَ الاْرْزَاقَفَكَثَّرَهَا وَقَلَّلَهَا، وَقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ والسَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بَمَيْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا، وَلِيَخْتَبِرَ بِذلِكَ الشُّكْرَ والصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا، ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا([60])، وَبِسَلاَمَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا، وَبِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا.وَخَلَقَ الاْجَالَ فَأَطَالَهَا وَقَصَّرَهَا، وَقَدَّمَهَا وَأَخَّرَهَا، وَوَصَلَ بَالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا([61])، وَجَعَلَهُ خَالِجاً لاِشْطَانِهَا([62])، وَقَاطِعاً لمَرائِرِ أَقْرَانِهَا([63])عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ([64])، وَنَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ، وَخَوَاطِرِرَجْمِ الظُّنُونِ([65])، وَعُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِين([66])، وَمَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ([67])، وَمَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَان([68]) الْقُلُوبِ، وَغَيَابَاتُ الْغُيُوب([69])، وَمَا أَصْغَتْ لاِسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ([70]) الاْسْمَاعِ، وَمَصَائِفُ الذَّرّ([71])، وَمَشَاتِيالْهَوَامِّ()[72]، وَرَجْعِ الْحَنِينِ مِنْ الْمُولَهَاتِ([73])، وَهَمْسِ الاْقْدَامِ([74])، وَمُنْفَسَحِالـثَّمَرَة([75]) مِنْ وَلاَئِجِ غُلُفِ الاْكْمَامِ([76])، وَمُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ([77]) مِنْ غِيرَانِ([78]) الْجِبَالِ وَأَوْدِيَتِهَا، وَمُخْتَبَاَ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الاْشْجَارِ وَأَلْحِيَتِهَا([79])، وَمَغْرِزِ الاْوْرَاقِ مِنَ الاْفْنَانِ([80])، وَمَحَطِّ الاْمْشَاج([81]) مِنْ مَسَارِبِ الاْصْلاَبِ([82])، وَنَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَمُتَلاَحِمِهَا([83])،وَدُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ في مُتَرَاكِمِهَا([84])، وَمَا تَسْقِ الاْعَاصِير بِذُيُولِهَا([85])، وَتَعْفُو الاْمْطَارُ بِسُيُولِهَا([86])، وَعَوْمِ بَنَاتِ الاْرضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ([87])، وَمُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الاْجْنِحَةِ بِذُرَا([88]) شَنَاخِيبِ([89]) الْجِبَالِ، وَتَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ([90]) الاْوْكَارِ، وَمَا أوْعَتْهُ الاْصْدَافُ، وَحَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ، وَمَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْل([91])، أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَار([92])، وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ([93])، وَسُبُحَاتُ النُّورِ([94])، وَأَثَرِ كُلِّ خَطْوَة، وَحِسِّ كُلِّ حَرَكَة، وَرَجْعِ كُلِّ كَلِمَة، وَتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَة، وَمُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَة، وَمِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّة، وَهَمَاهِمِ([95]) كُلِّ نَفْس هَامَّة، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَة، أَوْ ساقِطِ وَرَقَة، أَوْ قَرَارَةِ([96]) نُطْفَة، أوْ نُقَاعَةِ دَم([97]) وَمُضْغَة([98])، أَوْ نَاشِئَةِ خَلْق وَسُلاَلَة([99]).لَمْ تَلْحَقْهُ فِي ذلِكَ كُلْفَةٌ([100])، وَلاَ اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ([101])، وَلاَ اعْتَوَرَتْهُ([102]) فِي تَنْفِيذِ الاْمُورِ وَتَدَابِيرِ الْـمَخلُوقِينَ مَلاَلَةٌ([103]) وَلاَ فَتْرَةٌ([104])، بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ([105])، وَأَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ، وَوَسِعَهُمْ عَدْلُهُ، وَغَمَرَهُمْ فَضْلُهُ، مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ([106])".
[17] امتلاء بطنه. والمعنى أن الأرض أوقفت تمدد المياه.
[28] استقرار الجبال ضمن قشرة الأرض.
[31] معايشها، ومكامن رزقها.
[41] السحاب الثقيل الممطر.
[43] تدلّى الطائر حتّى وصل ذيله الأرض.
[45] حبات المطر التي تسقط.
[46] يمسح أسفل المطر الأرض لأعلاه.
[50] الأرض الهامدة، الغضرة.
[56] العينة الأولى، أو القياسيّة.
[59] تبين العذر والنذر، أي توضّح كل شيء.
[60] جعل كلّ شيء متتابعا (الفقر والغنى، القحط والنبات، المرض والصحة).
[63] الحبل المتين المقرون.
[65] الخواطر السريعة المتلاحقة.
[66] وانعقاد يقين الإيمان.
[67] لمحات البصر السريعة.
[68] أسرّته محافظ القلوب.
[71] الحشرات التي تنشط صيفاً.
[72] الحشرات الناشطة شتاءً.
[73] المتيمات بالحنين والحب.
[80] فرع الورقة من غصنها.
[81] الصبغيّات (لأنها كالوشائج فيما بينها).
[82] السبل التي تسلكها النطاف.
[83] ما تفرّق منها وما اجتمع.
[84] أين تقع كلّ حبة مطر، وأين تتجمّع.
[87] كيف تخفي تلال الرمال وجه الأرض.
[88] النباتات الحراجيّة مجنّحة البذور.
[96] استقرار النطفة في الرّحم.
[98] تشكّل الجنين يبدأ من المضغة، وهي تأتي بعد العلقة.
[106] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ١٧٣.