من خطبة تسمّى "خطبة الأشباح" للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يأخذنا أمير المؤمنين برحلة نعرج فيها معه إلى مقامات الملائكة، وألطاف أنوارهم، ومقاماتهم، وأصنافهم، ومواثيق عقيدتهم، وجدّ عبادتهم، مما لم يهبط إلا على قلب رسول الله (ص) من بين البشر. فعلّم أمير المؤمنين من علّم الله مالم يعرفه أحد، وبعد هذا يسأل جاهل لماذا نوالي أمير المؤمنين؟
قال أمير المؤمنين في وصف الملائكة:
"خَلَقَ سُبْحَانَهُ لإسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ([1]) الاْعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَمَلأ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا([2])، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا([3])، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ([4]) الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ([5])، وَسُتُرَاتِ الْحُجُبِ، وَسُرَادِقَاتِ([6]) الْـمَجْدِ، وَوَرَاءَ ذلِكَ الرَّجِيجِ([7]) الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ([8]) الاْسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُور([9]) تَرْدَعُ الاْبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا، فَتَقِفُ خَاسِئَةً([10]) عَلَى حُدُودِهَا.أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَر مُخْتَلِفَات، وَأَقْدَار مُتَفَاوِتَات، (أُولِي أَجْنِحَة مَثْنَى وَثُلاَثَ) تُسَبِّحُ جَلاَلَ عِزَّتِهِ، لاَ يَنْتَحِلُونَ([11]) مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ، وَلاَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ).جَعَلَهُمُ اللهُ فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الاْمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ، وَحَمَّلَهُمْ إِلى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ، وَأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ المَعُونَةِ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ([12]) السَّكِينَةِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلاً([13]) إِلى تَمَاجِيدِهِ([14])، وَنَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً([15]) وَاضِحَةً عَلَى أَعْلاَمِ([16]) تَوْحِيدِهِ، لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُوصِرَاتُ الاْثَامِ([17])، وَلَمْ تَرْتَحِلْهُمْ([18]) عُقَبُ([19]) اللَّيَالي وَالاْيَّامِ، وَلَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا([20]) عَزِيمَةَ إِيمَانِهمْ، وَلَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ([21]) يَقِينِهمْ، وَلاَ قَدَحَتْ قَادِحَةُ الاْحَنِ([22]) فِيَما بَيْنَهُمْ، وَلاَ سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لاَقَ([23]) مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمائِرِهمْ، وَسَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَهَيْبَةِ جِلاَلَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهمْ، وَلَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ([24]) بِرَيْنِهَا([25]) عَلى فِكْرِهمْ. مِنْهُمْ مَنْ هُوَ في خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ([26])، وَفي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ، وَفي قَتْرَةِ([27]) الظَّلاَمِ الاْيْهَمِ([28]).وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الاْرْضِ السُّفْلَى، فَهِيَ كَرَايَات بِيض قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ([29]) الْهَوَاءِ، وَتَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ([30]) تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ، قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ([31]) أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ، ووَسّلَت حَقَائِقُ الاْيمَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَقَطَعَهُمُ الاْيقَانُ بِهِ إِلى الْوَلَهِ([32]) إِليْهِ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ.قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَشَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ([33]) مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ([34]) قُلُوبِهمْ وَشِيجَةُ([35]) خِيفَتِهِ، فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهمْ، وَلَمْ يُنْفِدْ([36]) طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ، وَلاَ أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ([37]) خُشُوعِهمْ، وَلَمْ يَتَوَلَّهُمُ الاْعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَلاَ تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ([38]) الاْجْلاَلِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهمْ، وَلَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُؤُوبِهِمْ([39])، وَلَمْ تَغِضْ([40]) رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ، وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلاَتُ أَلْسِنَتِهمْ([41])، وَلاَ مَلَكَتْهُمُ الاْشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ([42]) الخبر إِلَيْهِ أَصْواتُهُمْ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ([43]) الطّاعَةِ مَناكِبُهُمْ، وَلَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمرِهِ رِقَابَهُمْ، وَلاَ تَعْدُوا عَلَى عَزِيمَةِ([44]) جِدِّهِم بَلاَدَةُ الْغَفَلاَتِ([45])، وَلاَ تَنْتَضِلُ([46]) فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ.قَدْ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَومِ فَاقَتِهمْ([47])، وَيَمَّمُوهُ([48]) عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلى الـمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهمْ، لاَ يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهمُ الاِسْتِهْتَارُ([49]) بِلُزُومِ طَاعَتِهِ، إِلاَّ إِلَى مَوَادَّ([50]) مِنْ قُلُوبِهمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَة مِنْ رَجَائِهِ وَمَخَافَتِهِ، لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ([51]) مِنْهُمْ، فَيَنُوا([52]) في جِدِّهِمْ، وَلَمْ تَأْسِرْهُمُ الاْطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْىِ([53]) عَلَى اجْتِهَادِهِمْ([54]). ولَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوِ اسْتَعْظَمُوا ذلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ([55])، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْواذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ، وَلاَ تَوَلاّهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ، وَلاَ تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ([56])، وَلاَ اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ([57]) الْهِمَمِ، فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَان لَمْ يَفُكَّهُمْ مَنْ رِبْقَتِهِ زَيَغٌ وَلاَ عُدُولٌ وَلاَ وَنىً([58]) وَلاَ فُتُورٌ، وَلَيْسَ في أَطْبَاقِ السَّمَاوَاتِ مَوْضِعُ إِهَاب([59]) إِلاَّ وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، أَوْ سَاع حَافِدٌ([60])، يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهمْ عِلْماً، وَتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً([61])".
[1] الصفحات العليا من ملكوت السماء.
[3] ملئ بهم فراغات جوّ السماء.
[4] صوت بجرس موسيقي متكرر.
[5] مهاجع الملائكة المقدّسة.
[6] الجدران العالية المحيطة.
[7] الرّجفة التي تنتابك من سماع الصوت.
[9] طبقات من سديم نوراني عظيم.
[11] يتشبّهون، أو يدّعون.
[21] ما عقدوا العزم عليه من اليقين.
[25] الصدأ الذي يعلو الحديد.
[26] يشبه كسف الغيوم العظيمة المحمّلة بالمطر.
[32] أعلى درجات الحب، والتعلّق.
[54] أي لا يفضّلون قريب العبادة على بعيدها.
[55] لتعالت أصوات رجاءهم بالاستغفار لله.
[61] الخطبة 91- نهج البلاغة.