من أقوال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ج1

2023.09.24 - 10:45
Facebook Share
طباعة

 يصف الإمام علي (عليه السلام) الدنيا وصفاً بليغاً يبيّن فيه حقيقتها، ومادّتها، وغفلة السّاكن إليها، والمراهن عليها فيقول:

"مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ، وآخِرُهَا فَنَاءٌ. فِي حَلَالِهَا: حِسَابٌ، وفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ. مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فتِنَ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، ومَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ، ومَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، ومَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ([1])".
الشرح: كيف أصفك يا دنيا؟ وبدايتك كلها تعب ومشقّة، فمن الطّفولة إلى آخر يوم من الحياة يسعى فيك الإنسان لتحصيل متطلباته، وما يكاد يستطيع ذلك لولا حلم الله ورحمته، ثمّ ينقلب فيك المرء بعد كلّ هذا التعب إلى الموت والفناء، فماذا حقق فيك؟ لا شيء! إلا عمل صالح يُكتب له عند خالقه يكون له نجاةً يوم العرض. حتّى الحلال فيك ليس مطلقاً، فالطعام حل لبني آدم، ولكن هل يجوز له الإفراط فيه؟ بالطّبع لا، فكل بدينٍ عليه آثام البدانة والشراهة، وسيلقى نتيجة عمله في الدنيا وسيحاسب على الإفراط في الآخرة، أمّا الحرام فيك، فهو سبيل المجرمين، ومن سيكون لهم الخزي فيك من سوء ما صنعوه، والعقاب في الآخرة نكال ما اقترفوه. أمّا من أعطيته فأغنيته، فإنّها فتنة له، فنعيمك يطغى على القلب فلا يعود يفرّق بين الحقّ والباطل، وأما من أفقرته فإنّه يعيش محروماً حزيناً على ما يفوته من طيّبات، ومن ضبط ساعته على توقيتاتك فإنه موهوم، فكم من أمرئٍ أعدّ بيتاً ليسكنه فما سكن غير القبر، أمّا من ابتعد عنّك يا دنيا فأنت تأتينه بكلّ ما يشتهيه النّاس كي ترجعيه لحكمك، على عكس من يطلبك فإنّك تحرمينه. من عرف حقيقتك وتعامل معك ببصيرته وفطرته السليمة كنت له خير معلّم، ومن شخص ببصره إليك كغاية أعميته وحرمته من كلّ لذّة.
 
ويقول أيضاً عليه السلام في الدنيا: "إليك عنّي يا دنيا، غرِّي غيري، إليَّ تعرّضت أم إليَّ تشوّقت؟ هيهات هيهات! فإنّي قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك؛ فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير([2])".
 
الشرح: إليك يا دنيا عنّي، فلا مجال لاتفاقنا أبداً، وكيف يتماشى الحكيم مع الغرور؟ فأنت غرورة مغرورة، اذهبي إذاً وضيّعي وقتك مع غيري، فأنا أنهيت علاقتي بك نهائيّاً، فعمرك -مهما طال- قصيرٌ ينتهي بالموت، بينما أنا أتطلّع إلى الخلود، وخطرك كبير على النّاس في غشّك وتدليسك لهم، وبالمقابل ماذا تعطينهم؟ لا شيء، متعة زائلة زائفة، لا تلبث أن تزول، ويجد المرء نفسه في مواجهة مع آخرته.


[1] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج6، ص 238.
[2]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج18، ص 75.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى