كلمة الشاعر والأديب الأستاذ شوقي ساسين في الامام علي بن ابي طالب عليه السلام
والتي القاها في ندوة لمؤسسة الامام علي عليه السلام للتوثيق في بيروت بتاريخ 6 تموز 2023 بحضور المئات من المثقفين وبرعاية وحضور وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى.
نص الكلمة:
مساء الخير.. صاحب المعالي
صاحب السماحة،
أصحاب الفضيلة صاحب السعادة ايها الاصدقاء..
ستكون مداخلتي اليوم بعنوان الامام علي وحقوق الانسان
من الناس قوم صنعتهم الاسطورة وقوم هم صنعوا ذلك، فالاولون تبرمجت سيرهم بمساحيق احباب أُنتج جلها مخيال الشعبي وحقنها حتى انتفخت بما يفوق البشرة احيانا كثيرة، اما الاخرون فعاشوا حياة عصرهم بكامل واقعيتها لكن نفوسهم امتلأت بموهبة استشراف الوجود. استشرافا رؤيويا معرفيا فقالوه افعالا وافكارا ومواقف فاذا هم في خاصة يومهم منتمون الى الغد المشترك بين جميع الناس. انتماء البذرة التي في جوف الأرض، الى الثمرة الطالعة فوق الغصون.
والامام علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه والسلام عليه الى آخر ما قيل ولم يقل من مدائح حسنى يليق بها أن ترافق اسمه، وضعته الحياة في مقدمة البشرالذين صنعوا اساطيرهم بايدي ايامهم.
ذلك ان عوامل موضوعية كثيرة، تضافرت في شخصه ومسيرته، فجعلته إنسانا مغرقا في انسانيته حتى منتهى الضل، ونورانيا شفاف الضياء حتى السديم. ولعله وهو صاحب المدرسة الفكرية الاولى في الاسلا، بلغ ما بلغ على سدة التاريخ، لأنه اكتنه واقع عصره فعاشه بكل جوارح روحانيته على نهج بلاغة و بطولة ونهج قيم.
فكان فيه وفي كل عصر تلاه، وسيبقى في العصور الاتية حتى يصير الزمان كله حفنة في قبضة خالقه.
لا ازال واقفا على باب الموضوع، وقد اظل في حديقته البرانية. فبحث الروح للإنسان في فكر الإمام لا تكفيه كتب ولا محاضرات. فكيف يفي بمقتضاه منبر ضامن المواقيت؟
ثم اني مقتنع بان الدراسات الاكاديمية لا ينبغي لها ان تسمع سماعا عابرا، بل ان تقرأ بروية وصفاء. لذلك سابتعد قدر المستطاع عن الجفاف الذي عادة ما يقرح جلد المحاضرات، وأترك لكوني أن يجري في لجة الموضوع على سجية إبره هانئا منسابا فلا ينال من اذن ِ برم ومن عين نعاس.
وأول الكلام عندي أن حقوق الإنسان ليست ابتداعا مستشارا. فقد عرفتها الحضارات كافة وأخذت بها كلها من غير اختلاف بين ِ في معاني مصطلحاتها وسماتها الرئيسية العامة لكونها في الاصل صفات لصيقة بكيان بشري. او هي من فطرة الانسان على وفق لغة الاسلام، في الواح حمورابي وفي الفلسفة الاغريقية والقانون الروماني والشريعة اليهودية وفي المسيحية والاسلام، كما في الثورتين الفرنسية والامريكية وشرعة الامم المتحدة. هذه الحقوق موجودة وهي نفسها لم تتبدل مضامينها المتشابهة الى حد كبير في كل من تلك الثقافات.
إن اختلاف الحضارات يا سادتي وقع في معنى الانسان لا في معنى حقوقه. فهو لدى البابليين مثلا من انتمى الى طبقة الاشراف التي كان لها وحدها ان تتمتع بجميع الحقوق التي نتحدث فيها، وهو عند الاثينيين ابن مدينة اثينا لا سواها حتى ايام ارسطو. وعند الرومان هو السيد النبي دون العبد ودون المعتق وفي التوراة هو اليهودي فقط.
ثم جاءت في المسيحية فالإسلام فاعادتا المعنى المحدود الى رحاب الانسانية المتسعة، من دون تفريق بين البشر. وعلى هذه الرؤية سارت حضارة الرأي الجديدة التي التي نشأت على اعقاب الثورة الفرنسية متأثرة حتى الجمام بالدراسات اللاهوتية والفقهية في كلا الدينين. ومن فلسفات الوضعية عامة مع فارقين اساسيين، الاول ان الثقافة الجديدة نسبت هذا التطور الى سيرورة التاريخ ونضالات الشعوب، فيما نسبه الدينان الى مشيئة الله في خليقته. والفارق الثاني، أنها قننت احكام حقوق الانسان في تشريعات وضعية مدونة. وهو في التعاليم الدينية منشور هنا وثمة على امتداد الايات والتفاسير.
شي ممتع ممتع.
حقوق الانسان اذاً... بضاعتنا ردت الينا، وكل من لا يعض عليها من نواجز من سلطة او فرد أو كيان انما يتنكر لتراثه الاصيل. فاذا اردنا تتبع مسراها في فكر الامام علي كان علينا ان نتحرى اولا فهمه لمعنى الانسان، وليس هذا بعسير لانه يكشفه في كل متجه من فعله وقوله. فهو عنده الكائن المجهول جسده من تراب وماء ورده من حرية ومساواة.
ولا يخفى على احد ان هاتين الفضيلتين تشكلان رأس المبادئ الاساسية الواردة في شرعة حقوق الانسان التي جاء في مادتها الاولى يولد الناس احرارا ويظلون احرارا ومتساوين في الحقوق.
اما الحرية فلا يكاد نهج البلاغة يحيد في خطبة او حكمة او رسالة عن اشارة ما اليها، كذلك لا تكاد حياة الايمان تخلو من تكريس عملي لها، لن نسرد طبعا مقولاته كلها في قضية الحرية.
بل اكتفي بان اذكر بعضا منها كقوله:
لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا.
وقوله ايضا:
ليس لي (وهو من هو) ليس لي ان احملكم على ما تكرهون.
تلك التي ترجمها في خطبة الجهاد الى حكمة بليغة المقاصد لا رأي لمن لا يطاع. حتى انه اوصى الاباء بان يفقهوا معنى الحرية في تربية ابنائهم.
فقال لا تقسروا اولادكم على اخلاقكم فانهم مولودون لزمان غير زمانكم.
وتتجلى وجوه الحرية عند الامام على صورها المعروفة بيننا في قضية الرأي والاختيار وفي قضية العمل. وفي حرية السكن والتنقل، وفي حرية التملك. وذلك في مقولات وحكم له كثيرة تضيق مساحة هذا الخطاب عن اعداده.
لكن ينبغي لي ان اشير الى انها في فكره تلتصق دائما بالضوابط الاخلاقية والايمانية، اعتقادا منه بان التحرر من الاثم رأس الحريات جمعاء.
و يقول:
من زهد في الدنيا اعتق نفسه وارضى ربه
فأصل الحرية عتق النفس لمرضاة الله، ولكي يتحقق فعلا معنى الانسان الحقيقي كما يراه الامام. وجب على الحرية ان تقترن بالمساواة.
ولعل أوفى مقولاته بهذه الصفة عهده الى مالك ابن الاشتر. حينما ولاه مصر وكان جل شعبها يوم ذاك من غير المسلمين. فاوصاه قائلا:
الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق.
واضاف: إياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة، واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض.
وكلمة طبقات لا تعني هنا التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع، بل تعني الصناعات التي يمارسها الشعب وانتماءاته الدينية المختلفة. فهذه لم يكن الامام يتخذها البتة معايير للتمييز بين الناس.
ويبلغ شأن المساواة عنده أنه أبى على اصحابه سب أهل الشام فيما هؤلاء دائمون على شتمه فوق المنابر وعلى مناصبته العداء الظالم. فقال:
إني أكره أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو قلتم مكان سبكم إياهم اللهم إحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم.
فما اروع هذه المساواة الاخلاقية بين المتخاصمين، وما أروع منها وصيته الى ولده الحسن. التي كتبها عند منصرفه من صفين وفيها يقول:
يا بني، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك. واكره له ما تكره لها. ولا تظلم كما لا تحب ان تُظلم. وأحسن كما تحب ان يحسن اليك. واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك وأرضى من الناس بما ترضاه لهم من نفسك.
وينضح من هذا الكلام كله، أن فكرة المساواة في نهج الامام قائمة على مرتكز الحق. وتحتها تنضوي العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو بين الوالي والرعية. مثال أنه كتب الى الأسود بن القطيبة صاحب حلوان. فقال:
ليكن امر الناس عندك في الحق سواء .
سأخرج قليلا عن النص لأعلق على هذه الكلمة. فـحلوان هي مدينة في مصر، و لم يقل الامام لحاكمها
ليكن امر المسلمين عندك في الحق سواء،
بل قال له: ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، وكان جل أهل مصر يوم ذاك، كانوا من الاقباط.
ليكن امر الناس عندك في الحق سواء. حتى انه جعل الحق عنوان خلافته في جميع الصراعات التي خاضها. فقال:
الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والعزيز عندي ذليل حتى آخذ الحق منه.
ولقد بلغ لديه مقدار احترام الوجود الانساني في شخص كل أحد مواليا كان ام خصما ام عدوا انه رثى طلحة الذي خلع بيعته والب على حربه الجموع. وأنه نهى أهله عن التمثيل بقاتله. او الإقتصاص من أحد سواه. وانه اخيرا اوصى اتباعه بالا يقاتلوا الخوارج الذين انشقوا عنه واضعفوا جنده. لانه رآهم مخلصين وان كانوا مخطئين مصرين على خطأهم.
ويضع بعض الدارسين هذه المآثر تحت عنوان النبل الذي إزدانت به صفات الإمام في جميع التصرفات والمواقف. فكأنهم يعدون ذلك فضيلة شخصية لاصقة به لا أكثر ولا أقل. صحيح انها كذلك، لكن من يتأمل بعين العدل والحكمة يجد أنه رفعها الى مستوى القيمة الاخلاقية المشتركة بين الناس. عندما طبقها على نفسه وعلى سواه بالموعظة والممارسة في السلم والحرب، وفي البؤس والرخاء، وفي الحكم وفي كل مظاهر الحياة.
وبعد ايها الاصدقاء،
يقول الامام عليه السلام:
القلب مصحف البصر امام الله تعالى
لقد ابصرته الشعوب وهو في اخر الغياب. ودونته في قلوبها اسطورة حقيقية من لحم ودم. ورفعته مشتاء على جبل الانسانية فتيلها الايمان ووقودها الفكر وذهبها البطولة.
اما أنا فكل ما فعلته هنا أنني حاولت ان اشهد لتلك العظمة ببيان متلجلج امام بلاغة الامام، قاصر دون الاحاطة بجهاتها، وأن أقول لمثل محبيه وتابعيه، وانا منهم. ليس الامام قنية لنا نباهي بها الناس، بل هو جسر الانسانية إلى أوهانها.
إن رأيناه ملكا لنا تعصبنا له، أو ملكا للإنسانية تعصبنا به، وشتان.
الآن لا أترك وأنا أترك عثرات الكلام، اشدد إيماني بأنه ما كان ليحتل فضاء الاسطورة ويتسيد على أرض البلاغة أربعة عشر قرنا حتى الآن، إلا لأنه كان في أعماق وجود الانساني قادراً على أن يعيش قوله الشهير: يا دنيا غرّي غيري غرّي غيري..... والسلام.