يوهان غوته والامام علي (ع)

2022.02.21 - 08:59
Facebook Share
طباعة

يعدّ يوهان غوته (1749-1832م) واحدًا من ألمع الأسماء الأدبية، ليس على مستوى تاريخ تطور الأدب الألماني الحديث فحسب، وإنما على مستوى تاريخ تطوّر الأدب الأوروبي الحديث عمومًا. عُرف بحسّه الإنساني، وقوة شاعريته، وانفتاحه على الثقافات والآداب الأخرى غير الأوروبية. أنجز أعمالًا أدبية كسبت إعجاب الأمم والشعوب ما بين الغرب والشرق، وحظي بالتبجيل والتقدير بين الأدباء حتّى خلعوا عليه لقب شاعر ألمانيا العظيم.
ارتبط غوته بعلاقة وثيقة مع الثقافة الإسلامية، التي مثّلت له مصدر إلهام أدبي وأخلاقي وإنساني، كاشفًا عن هذه العلاقة ومعتزًّا بها، ومعبّرًا عنها بطريقة أثارت دهشة الأدباء والباحثين، الغربيين والشرقيين على حدٍّ سواء، وذلك بلحاظ قوّتها وزمنها، ووضوحها وعمقها، حيث ظهرت متجلية في أصناف أدبه نثرًا وشعرًا وروايةً ومسرحًا.
وهذا ما كشفت عنه الباحثة الألمانية الخبيرة كاتارينا مومزن، التي تخصّصت في تراث غوته، وأخذت على عاتقها –كما تقول- تتبع البصمات العربية على فكره وأشعاره، والكشف عن المصادر العربية التي استسقى منها غوته صوره وموضوعاته العربية، مقدمة في كتابها (جوته والعالم العربي) أجود عمل يصنف في هذا الشأن، ويصلح أن يكون كتابًا مرجعيًّا لا غنى عنه في دراسة هذا الموضوع.
رأت كاتارينا أن علاقة غوته بالإسلام، ونبي الإسلام تدعو للدهشة، فبحسب قولها: "ن علاقة غوته بالإسلام وبنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر، فكلّ الشواهد تدلّ على أنّه كان في أعماق وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأنّ معرفته بالقرآن الكريم كانت بعد الكتاب المقدس، أوثق من معرفته بأيّ كتاب من كتب الديانات الأخرى، ولهذا فاقت تعبيراته وتصريحاته عن الإسلام كل ما كان قد قيل عنه في ألمانيا حتى ذلك الحين، من حيث القوة والجسارة والتحدي".
أمّا من جهة الإلهام، فقد رأت كاتارينا أنّ نبي الإسلام مثّل مصدر إلهام لشاعرية غوته، مفصحة عن هذا الأمر بتأكيد ووضوح قائلة: "ومهما كان الأمر، فقد ألهم نبي الإسلام شاعرية غوته إلهامًا يفوق ما أدركه الباحثون حتى الآن".
في هذا السياق ذكرت كاتارينا، التي أحاطت علمًا بالتراث المخطوط لغوته، أنها وجدت شذرات من مسرحية دوّنها غوته، ولم يكملها عن النبي محمد سمّاها (تراجيديا محمد)، يرجع تاريخها إلى سنة 1772م، رأت فيها أنها تضمّنت: "برغم قصرها ثناء ومديحًا عظيمين، لم يسبق لأيّ شاعر ألماني في أيّ عصر من العصور أن قدّمها لنبي الإسلام".
نظم غوته قصيدته هذه على شكل حوار بديع ومدهش، جرى على لسان اثنين هما من أقرب الناس وأحبهما إلى النبي، بين الإمام عليّ بن أبي طالب، الذي وصفته كاتارينا بالصحابيّ الشجاع، وبين السيدة الصديقة فاطمة الزهراء التي وصفتها كاتارينا ابنة النبي الحبيبة.
يقول غوتّه:
-علي: انظروا إلى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلي، أبلج متألقًا كأنه الكوكب الدري.
-فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب ملائكة الخير في مهده بين الصخور والأدغال.
-علي: وإنه لينهمر من السحاب، مندفعًا في عنفوان الشباب، ولا يزال في انحداره على جلاميد الصخر، يتنزى فائرًا، متوثبًا نحو السماء، مهللًا تهليل الفرح.
-فاطمة: جارفًا في طريقه الحصى المجزع، والغثاء الأحوى.
-علي: وكالقائد المقدام، الجريء الجنان، الثابت الخطى، يجرّ في أثره جداول الربى والنجاد.
-فاطمة: ويبلغ الوادي، فتتفتح الأزهار تحت أقدامه، وتحيا المروج من أنفاسه.
-علي: لا شيء يستوقفه، لا الوادي الوارف الظليل، ولا الأزهار تلتف حول قدميه وتطوق رجليه، وترمقه بلحاظها الوامقة، بل هو مندفع عجلان صامد إلى الوهاد.
-فاطمة: وهذه أنهار الوهاد تسعى إليه في سماح ومحبة، ومستسلمة له مندمجة فيه. وهذا هو ما يجري في الوهاد، فخورًا بعبابه السلسال الفضي.
-علي: الوهاد والنجاد كلها فخورة به.
-فاطمة: وأنهار الوهاد، وجداول النجاد تهلل جميعًا من الفرح متصايحة:
-عليّ وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك! خذنا معك!
-فاطمة: خذنا معك إلى البحر المحيط الأزلي، الذي ينتظرنا باسطًا ذراعيه. لقد طال ما بسطهما ليضم أبناءه المشتاقين إليه.
-علي: وما كان هذا الفيض كلّه ليبقى مقصورًا على الصحراء الجرداء. ما كان هذا الفيض ليفيض في رمال الرمضاء، وتمتصه الشمس الصالبة في كبد السماء، ويصده الكثيب من الكثبان، فيلبث عنده غديرًا راكدًا من الغدران. أيها السيل، خذ معك أنهار الوهاد!
-فاطمة: وجداول النجاد.
-علي وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك! خذنا معك!
-علي: هلم جميعًا، هو ذا العباب يطم ويزخر، ويزداد عظمة على عظمة. هو ذا شعب بأسره، وعل رأسه زعيمه الأكبر، مرتفعًا إلى أوج العلا، وهو في زحفه الظافر، يجوب الآفاق ويخلع أسماء على الأقطار، وتنشأ عند قدميه المدائن والأمصار.
-فاطمة: ولكنه ماضٍ قُدمًا لا يلوي على شيء، لا على المدائن الزاهرة، ولا على الأبراج المشيّدة، أو القباب المتوهّجة الذرى، ولا على صروح المرمر، وكلها من آثار فضله.
-علي: وعلى متن عبابه الجبار تجري منشآت السفن كالأعلام، شارعة أشرعتها الخافقة إلى السماء، شاهدة على قوته وعظمته. وهكذا يمضي السيل العظيم إلى الأمام بأبنائه.
-فاطمة: ويمضي إلى الأمام ببناته.
-علي وفاطمة (في صوت واحد): إلى أبيهم، ذلك البحر العظيم، الذي ينتظرهم ليضمهم إلى صدره، وهو يهلل ويكبر زاخرًا بالفرح العميم".
لم تقفز هذه اللفتة المدهشة إلى ذهن غوته صدفة، ولا بعفوية غير مقصودة، ولم تكن مجرّد خواطر عرضت عليه بلا سابق خيال، وإنما كان متنبهًا لمن ينبغي أن يكون حاكيًا عن النبي، متمثّلًا صوته، متقمصًا دوره، مجسّدًا خلقه، عارفًا به، متناغمًا معه، قريبًا منه، مندكًّا فيه، فمن يكون يا ترى! في نظر غوته إنهما: عليّ وفاطمة! كم كنت محقًّا يا غوته ومدهشًا ومصيبًا في هذا الاختيار الذي لم يقوَ عليه بعض المسلمين!
عكس غوته في هذه القصيدة قوّة خياله، وبلاغة بيانه، وجمالية فنّه، ورحابة أفقه، وبعد نظره، مقدّمًا قصيدة بقيت إلى اليوم بعيدة عن أعين الأدباء والنقاد فحصًا وتحليلًا وتفكيكًا في نواحيها الأدبية والجمالية والفكرية.
 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى