ادارة الدولة في كلام الامام علي (ع)

2023.07.18 - 04:14
Facebook Share
طباعة

 أشار الإمام (عليه السلام)، الى الضوابط التي تحدّ من فساد الوالي أثناء توليّه أمور الرعيّة، واضعاً الأطر الأساسيّة لقيام المجتمعات السليمة فيما يلي:

أولًا: عدم سفك الدماء خارج حدود الله. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، موصياً مالك الأشتر حين أرسله والياً على مصر:
«إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ، لاِنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ، وَإِنِ ابْتُلِيتَ بخطء وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ [أَوْ سَيْفُكَ] أَوْ يَدُكَ بِعُقُوبَة، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ([1]) فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول حَقَّهُمْ([2])».
فالإمام (عليه السلام) يحذّر الوالي من سفك الدماء بغير وجه حقّ، منوّهاً إلى أنّه ما من شيء أصعب منه ومن تبعاته، فإذا كانت الغاية من ذلك تقوية سلطانه، فإن الأمور ستؤول الى ضعف سلطانه، لا بل وإزالته عنه. حتّى الأمور الروتينيّة التي يقوم بها الولاة، من متابعة الجرائم، وضبط المجرمين، إذا أدّت إلى أذيّة، أو موت المضبوط، فإنّ الديّة واجبة من الدولة إلى المصاب، أو إلى أهل المقتول.
ثانيًا: يجب على الوالي تذكّر سنن أهل العدل ممن حكموا قبله، أو مما أثر عن رسول الله، أو مما افترضه الله في كتابه:
«وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ: مِنْ حُكُومَة عَادِلَة، أَوْ سُنَّة فَاضِلَة، أَوْ أَثَر عَنْ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله) أَوْ فَرِيضَة فِي كِتَابِ اللهِ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عهْدِي هذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ، لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا([3])».
نلاحظ من كلام الإمام (عليه السلام) نقطتين مهمتين:
الأولى: على من يخلف أمرًا أن يجعل من كان قبله قدوة له، وهو حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي كما وصفها الإمام (عليه السلام):
«حُكُومَة عَادِلَة، أَوْ سُنَّة فَاضِلَة».
الثانية: أن الإمام (عليه السلام) بيّن لهم بأنه (عليه السلام)، هو امتداد لتلك الحكومة، وأنه وضع واجباته تجاه عماله بصورة واضحة المعالم، وانتهج نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثالثًا: ترك العجب وحب المديح والإطراء:
«وَإِيَّاكَ وَالاْعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاْطْرَاءِ، فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِـيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْـمُحْسِنِينَ([4])».
رابعًا: ترك المنّ على الرعية، والتزام الوالي بوعوده لرعيته:
«وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الاْحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ([5])».
قال تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، وهنا يوضّح الإمام (عليه السلام) ما يجب على الخليفة، أو الوالي أن يقوم به تجاه رعيته، وذلك بأن لا يتفاخر بما يقدّمه لهم، وأن يحسن لهم أمورهم، وأن لا يخلف الوعد الذي وعدهم به كقول الإمام (عليه السلام): «المسؤول حر حتى يعد([6])». وكأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى الوعود الانتخابيّة التي يطلقها المرشّحون إلى السّلطة في زماننا الحالي، ومن ثمّ يتناسونها فور وصولهم للحكم، فهذه الوعود ليست مجرّد كلام انتخابي -كما يظنّون- وإنّها هي مسؤوليّة عظمى، سيمقتهم الشعب لأجل عدم الوفاء بها، وسيسألهم الله سبحانه وتعالى عنها.
 خامسا: لا يتعجل بالأمور، وعدم تأجيلها إذا آن أوانها، وألا يتهاون في مهامه.
«وإيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بالأمور قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا، أَوِ الَّلجَاجَةَ فِيهَا إِذا تَنَكَّرَتْ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَل مَوْقِعَهُ.. لا يستأثر وَإيَّاكَ وَالاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلَيل تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ([7])».
يبدو لنا جليًا بأن الإنسان عندما يتمكن من شيء، أو تصبح له سلطة قوية، فإنه يستأثر أي يبدأ بتسخير تلك السلطة لصالح منافعه الماديّة أو المعنويّة، فالإمام (عليه السلام) ينهى مالكًا الأشتر عن ذلك. كما أن بعض الحكام والسلاطين يستأثرون أصحابهم المقربين، ويغدقون عليهم الخيرات استغلالًا لمناصبهم، فالإمام (عليه السلام) من جهة أخرى يؤكّد بأن ذلك لا يدوم، كونه لا يبقَى مخفيًا عن الرعية، ثم إنه عما قليل تزول أغطية هذه الأمور ويأخذ المظلوم حقه، وما أنت إلا كأحد هذه الرعية، وتاريخنا مليء بهذه الأحداث بل ما أكثرها! كما جاء قول الإمام (عليه السلام): "من ملك استأثر([8])". والمعنى: أن الغالب في حالة كل ملك، أن يستأثر على الرعية بالمال والعز والجاه ونحوه قولهم: من غلب سلب، أي أنّه طبع في الإنسان، يقول الله تعالى: {كلا إنّ الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى}([9])، فهذا الاستئثار هو من فئة الطغيان التي تصيب الإنسان في حالة السلطة، واستغناء الله عن محاسبته الفوريّة، وتأجيل العقوبة له.
سادساً: يوصي الإمام الوالي أيضاً، فيقول (عليه السلام):
«وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكِ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ([10])».
«فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ، يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ، وَلاَ مُدَالَسَةَ، وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ([11])».
«وَلاَ مُدَالَسَةَ، وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ، وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تَجُوزُ فِيهِ الْعِلَلُ، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ القَوْل بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيق تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طَلِبَةٌ، لاَتَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلاَ آخِرَتَكَ([12])».
وبذلك يقول المعتزلي: «ثم نهاه عن أن يعقد عقدًا يمكن فيه التأويلات والعلل وطلب المخارج، ونهاه إذا عقد العقد بينه وبين العدوان ينقضه معولًا على تأويل خفي أو فحوى قول، أو يقول: إنما عنيت كذا، ولم أعن ظاهر اللفظة، فإن العقود تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال متداول في الاصطلاح والعرف لا على ما في الباطن([13])».
ولمحمد عبده رأي آخر: «فإذا تعلل المتعاقد لك بعلة قد تطرأ على الكلام وطلب شيئًا لا يوافق ما أكدته المعاهدة، وأخذت عليه المواثيق، فلا تعولن عليه، وكذلك لو رأيت ثقلًا في التزام العهد فلا تركن الى لحن القول لتتخلص منه فأخذ بصرح الوجود لك وعليك».


[1] الضربة الخفيفة باليد.
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق.
[6] شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين - ابن ميثم البحراني - الصفحة ١٥٢.
[8] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٨ - الصفحة ٣٨١.
[9] سورة العلق: الآيتين 6-7.
[10] الشريف الرضي، محمد بن الحسين،‏ نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، قم، الناشر: هجرت، ط 1، 1414 هـ، ص 426 – 445. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد- ج 17- ص 30 وما بعدها.
[11] المرجع السابق.
[12] المرجع السابق.
[13] المرجع السابق.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى