خطبة رقم (186) للإمام علي (عليه السلام): في صفات الله تعالى ج2

2023.07.18 - 04:14
Facebook Share
طباعة

 يكمل أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبته العظيمة، مبيّتاً للناس ما خفي عليهم من صفات المولى عزّ وجل، في أسلوب بلاغي عظيم، ومحاكاة فلسفيّة تحار بها ألباب أهل العلم، وتهتدي بها العوام، وتتثبّت به الخواص، لا يستطع أحد، مجاراة أمير المؤمنين فيما أورده في هذه الخطبة، ولا في غيرها، ولكن هذه الخطبة فيها تحدٍ للعقول، وإطلاق لأفكار المتلقي في متاهات المطلق، لكن مع دليل عالم، علمه يقيني، جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو باب العلم، ومن يريد العلم فعليه التزام الباب، يقول أمير المؤمنين:

"يُخْبِرُ لاَ بِلِسَان وَلَهوَات([1])، وَيَسْمَعُ لاَ بِحروُفٍ وَأَدَوَات([2])، يَقُولُ وَلاَ يَلْفِظُ([3])، وَيَحْفَظُ وَلاَ يَتَحَفَّظُ([4])، وَيُرِيدُ وَلاَ يُضْمِرُ([5]). يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّة([6])، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّة([7]). يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ: (كُنْ فَيَكُونُ)، لاَ بِصَوْت يَقْرَعُ([8])، وَلاَ بِنِدَاء يُسْمَعُ([9])، وَإِنَّمَا كَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ([10])، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً([11])، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً. لاَ يُقَالُ: كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ([12])، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْـمُحْدَثَاتُ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ([13])، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ([14])، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ([15])، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ([16]). خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ. وَأَنْشَأَ الاْرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال([17])، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار([18])، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ([19])، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ([20])، وَحَصَّنَهَا مِنَ الاْوَدَ([21]) وَالاْعْوِجَاجِ، وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ([22]) وَالانْفِرَاجِ([23])، أَرْسَى أَوْتَادَهَا([24])، وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا([25])، وَاسْتَفَاضَ عُيُونَهَا([26])، وَخَدَّ أَوْدِيَتَهَا([27])، فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ([28])، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ. هُوَ الظّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ([29])، وَالْعَالي عَلَى كَلِّ شَيْء مِنهَا بِجَلاَلِهِ وَعِزَّتِهِ. لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ([30])، وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ، وَلاَ يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَال فَيَرْزُقَهُ. خَضَعَتِ الاْشْيَاءُ لَهُ، وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ، لاَ تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ، وَلاَ كُفؤَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ. هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا([31]). وَلَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا([32])، وَكَيفَ وَلَوْ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا، ومَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا([33]) وَسَائِمِهَا([34])، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا([35]) وَأَجْنَاسِهَا، وَمُتَبَلِّدَةِ([36]) أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا([37])، عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَة، مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا، وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذلِكَ وَتاهَتْ، وَعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ([38])، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً([39]) حَسِيرَةً([40])، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إفْنَائِهَا؟! وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ، يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، كَذلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلاَ وَقْت وَلاَ مَكَان، وَلاَ حِين وَلاَ زَمَان، عُدِمَتْ عِنْدَ ذلِكَ الاْجَالُ وَالاْوْقَاتُ، وَزَالَتِ السِّنُونَ وَالسَّاعَاتُ، فَلاَ شَيْءَ إِلاَّ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الاْمُورِ، بِلاَ قُدْرَة مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا([41])، وَبِغَيْرِ امْتِنَاع مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا([42])، وَلَوْ قَدَرَتْ عَلَى الامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا. لَمْ يَتَكَاءَدْهُ([43]) صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ، وَلَمْ يَؤُدْهُ([44]) مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ([45]) وَخَلَقَهُ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَان([46])، وَلاَ لِخَوْف مِنْ زَوَال وَنُقْصَان، وَلاَ لِلاْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ([47]) مُكَاثِر([48])، وَلاَ لِلاْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر([49])، وَلاَ لِلاْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ، وَلاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ، وَلاَ لِوَحْشَة كَانَتْ مِنْهُ([50])، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا. ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لاَ لِسَأَم دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا([51])، وَلاَ لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَيْهِ، وَلاَ لِثِقَلِ شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ. لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأمسَكَهَا بِأَمْرِهِ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ. ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهَا([52])، وَلاَ اسْتِعَانَة بَشَيْء مِنْهَا عَلَيْهَا([53])، وَلاَ لاِنصِرَاف مِنْ حَال وَحْشَة إلَى حَالِ اسْتِئْنَاس، وَلاَ مِنْ حَالِ جَهْل وَعَمىً إِلَى حَالِ عِلْم وَالْتمَاس([54])، وَلاَ مِنْ فَقْر وَحَاجَة إِلَى غِنىً وَكَثْرَة، وَلاَ مِنْ ذُلٍّ وَضَعَة([55]) إِلَى عِزٍّ وَقُدْرَة"([56]).


[1] يخبرنا الله ما يريد، من غير حاجته للسان واللهاة التي تتحرّك في الحلق لتسد مجرى البلعوم بحسب الحاجة لنطق الحروف.
[2] وهو لا يحتاج مثلنا إلى نطق حروف، ولا أدوات للنطق أصلاً.
[3] يقول ما يريد من غير لفظٍ ونطق.
[4] هو يحفظ كل ما كان من قوله، من غير تكلّف ولا تحفّظ.
[5] يريد ما يريده مباشرة، من غير إضمار لذلك في القلب، كما هي حال البشر، فالإرادة عندنا تكون عن تخطيط وتفكير، أما إرادة الله فهي أمر مباشر نافذ، لا يأتي عن تخطيط.
[6] رقّة مشاعر، فالله منزّه عن ذلك، أي أنّه لا تأخذه العاطفة.
[7] من غير تكلّف أو تعب، أو عواقب وتبعات على ذلك.
[8] صارخ عالٍ قوي.
[9] صوت خافت بالكاد يُسمع. أي أن صوت الله تعالى لا تنطبق عليه مواصفات أصوات المخلوقات.
[10] يتطرّق مولانا أمير المؤمنين لقضيّة خطيرة، تاه عندها الكثير من العلماء المسلمين، لكن أمير المؤمنين يلخصها بكلمتين، إن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا، هذا هو دليل المعتزلة على نفى المعاني القديمة التي منها القرآن، وذلك لأن القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى، أو موجب عن الأخص، فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري; لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص صفاته، وكان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات، نحو العالمية والقادرية وغيرهما، فكان إلها ثانيا. أما قوله مثّله، أي أوصله، أنزله، أبلغه بطريقة ربانيّة لمن يجب أن يصل إليه، ربّما نستطيع تشبيه الأمر (ولله المثل الأعلى) بطريقة الـ Download  والله أعلم.
[11] أي أن كلام الله محدث، غير أزلي.
[12] لا يصح أن يقال عن الباري عز وجلّ أنّه كان بعد أن لم يكن، فهو كائن في كلّ حين، غير محدث، أزلي من قبل الأزل.
[13] لكان شبيهاً بمخلوقاته، وانتفى الفصل بينهما، وهذا لا يستقيم.
[14] ولم يكن يفرق عن خلقه.
[15] فيكون الخالق والمخلوق سواء.
[16] ويكون الاختراع ومن اخترعه متساويان، وهذا لا يجوز مطلقاً.
[17] لم يشغله ذلك عن شيء آخر.
[18] جعلها ترسو وتستقر، من غير قاعدة تستقرّ عليها. وهنا نرى سبقاً إعجازياً لأمير المؤمنين، بأنّ الأرض تسبح في الفضاء، غير مستقرّة على شيء يسندها، وهذا مالم تتم معرفته إلا بعد القرون الوسطى.
[19] ليس لها أرجل تحملها.
[20] ليس لها دعائم تدعم ثقلها.
[21] الانحناء والميل.
[22] التساقط قطعة قطعة.
[23] الانشقاق والتشظّي.
[24] أرسى جبالها كالأوتاد، تمسك قشرتها الأرضيّة.
[25] أقام سفوح جبالها.
[26] أجرى عيونها.
[27] حفر أوديتها.
[28] لم يواجه ما بناه ضعفاً.
[29] الذي يعرف بواطنها، وما خفي من علومها.
[30] لا شيء في الأرض يستطيع الهروب من طلب الله له.
[31] يقول الله تعالى: "كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده".
[32] فناء الدنيا، أسهل من ابتداعها.
[33] ما تحويه الحظائر.
[34] ما تشتمل عليه المراعي.
[35] أصول أروماتها الجينيّة، وشعبها، وهذا ضروب علم الأحياء الذي تحدّث به مولانا الأمير.
[36]   التي لا تتميّز بعقل تحليلي كالبهائم.
[37] وأصلها، كيس، أي الأصناف التي تمتاز بالذكاء، كالقرود والدلافين.
[38] أي تبين لها أن قواها محدودة، وضعيفة.
[39] مخذولة، أي لم تحقق مرادها.
[40] كليلة قاصرة.
[41] لم تعن خالقها على خلقها.
[42] لم تقاوم فناءها.
[43] يعجزه.
[44] يتعبه.
[45] ما ابتدعه من خلق.
[46] لم يخلقها كي يقوّي سلطانه.
[47] ولا كي تؤازره على عدو.
[48] يفوقه عدداً.
[49] مخالف لله ثائر عليه.
[50] وحشة وتوحّد.
[51] ملّ من تدبيرها وتصريف أمورها.
[52] ليس بحاجة وجودها.
[53] من غير إعادة تدوير لعناصرها.
[54] إبصار، كالتماس الهلال.
[55] قلّة رفعة.
[56] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٣ - الصفحة ٨٢ - 94.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى