خطبة رقم (186) للإمام علي (عليه السلام) في صفات الله، سبحانه وتعالى ج1

2023.07.18 - 04:13
Facebook Share
طباعة

 في هذه الخطبة المباركة، يتطرّق أمير المؤمنين عليه السلام لصفات المولى عزّ وجلّ، فينفي عنه المشابه والمماثلة، ويطلق الفكر في لا نهائيّة وصمدانيّة الخالق، بما لا يمكن أن يضاهيه نص من نصوص البشر عبر التاريخ، إذ لا يمكن لعقول البشر -مها بلغت من التوّر والوعي- أن تساير الأفكار التي يجسّدها أمير المؤمنين في خطبه، سابقاً بذلك كلّ فلاسفة علم المنطق والكلام والأبستمولوجيا بأشواط لا تتوافق مع إمكانيات الإنسان الفكريّة ولا التصويريّة ولا الخطابية، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

"مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ([1])، وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ([2])، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ([3])، وَلاَ صَمَدَهُ([4]) مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ. كُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ([5])، وَكُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ([6]). فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَة([7])، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَة([8])، غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَة([9]). لاَ تَصْحَبُهُ الاْوْقَاتُ([10])، وَلاَ تَرْفِدُهُ([11]) الاْدَوَاتُ، سَبَقَ الاْوْقَاتَ كَوْنُهُ([12])، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ([13])، وَالابْتِدَاءَ أَزَلُهُ([14]). بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ([15])، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الاْمُورِ([16]) عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الاْشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ([17]). ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ([18])، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ([19])، وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ([20])، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ([21]). مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا([22])، مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا([23])، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِداتِهَا([24])، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا([25]). لاَ يُشْمَلُ بِحَدّ([26])، وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ([27])، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الاْدَوَاتُ أَنْفُسَهَا([28])، وَتُشِيرُ الاْلاَتُ إِلَى نَظَائِرِهَا([29])، مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ([30])، وَحَمَتْهَا قَدُ الاْزَلِيَّةَ([31])، وَجَنَّبَتْهَا لَوْلاَ التَّكْمِلَةَ([32])، بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ([33])، وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ. لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، وَكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ([34])، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ([35])، وَيَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَةُ([36])؟! إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ([37])، وَلَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ([38])، وَلاَمْتَنَعَ مِنَ الاْزَلِ مَعْنَاهُ([39])، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ([40])، وَلاَلْـتَمَسَ الـتَّمامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ([41]). وَإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ([42])، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ([43])، وَخَرَجَ بِسُلْطَانِ الاْمْتِنَاعِ([44]) مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤثِّرُ فِي غَيْرِهِ. الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ([45])، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الاْفُولُ([46]). لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً([47])، جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الاْبْنَاءِ، وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ. لاَ تَنَالُهُ الاْوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ([48])، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ([49])، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ([50])، وَلاَ تَلْمِسُهُ الاْيْدِي فَتَمَسَّهُ. وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَال، وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الاْحْوَالِ، وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالي وَالاْيَّامُ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالظَّلاَمُ، وَلاَ يُوصَفُ بِشَيء مِنَ الاْجْزَاءِ([51])، وَلاَ بِالجَوَارِحِ وَالاْعْضَاءِ، وَلاَ بِعَرَض مِنَ الاْعْرَاضِ([52])، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَالاْبْعَاضِ([53]). وَلاَ يُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ، وَلاَ انقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ، وَلاَ أَنَّ الاْشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ([54]) أَوْ تُهْوِيَهُ([55])، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ، فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ([56]). لَيْسَ فِي الاْشْيَاءِ بِوَالِج([57])، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِج([58])"([59]).


[1] لم يوحّد الله، بل أشرك به من جعل لله كيفيّة وجود.
[2] شببه أو جعل له مثلاً.
[3] ولم يعنه أبداً من شبهه.
[4] لم يؤمن بصمديّته وعدم تغييره وتبدله من أشار له، أو تخيّله.
[5] إن الأشياء المعروفة بنفسها والمستقلّة استقلالا تاماً عمّا حولها هي مصنوعة وقد تمّت صناعتها وانتهت، فهي لم توجد وحدها.
[6] وكل شيء معتمد على شيء آخر في الوجود فهو فيه علّة القصور والاحتياج.
[7] ليس في فعله حركة آليّة، وهنا يشير مولانا أمير المؤمنين ببلاغة وإعجاز إلى القوة الديناميكيّة الحركيّة، وينزّه الله عنها.
[8] يقدّر الأشياء من غير أن تجول فكرة في رأسه سبحانه وتعالى.
[9] غناه لا يكون عن طريق الرّبح والزيادة التي يعتمدها أصحاب الدراسات الاقتصاديّة في تحليل الإنتاج والأسواق وفاعليتها.
[10] ليس هناك زمن يصاحب وجوده، فهو خارج الزمان.
[11] لا يوجد أدوات مساعدة له في عمله وقدرته سبحانه وتعالى.
[12] فوجوده سبق مرور الأزمنة.
[13] ووجوده سبق العدم.
[14] ابتدأ منذ الأزل، أي قبل تكوين التكوين.
[15] وبخلقه للمشاعر لنا، أشعرنا أن لا مشاعر له سبحانه وتعالى، فالمشاعر صفة المخلوق.
[16] خلقه للمتضادات.
[17] وبقرنه ومقارنته للأشياء عرفنا بالدّليل أن لا قرين له سبحانه.
[18] جعل النور والظلمة ضدّان.
[19] وجعل الوضوح والإبهام ضدان.
[20] اليباس والرّطوبة.
[21] شدّة الحرارة والبرودة.
[22] يؤلّف في خلقه بين ما تخاصم من هذه الأضداد.
[23] ويقرن ويربط بين ما اختلف منها في تناغم رباني.
[24] يقارب بين ما تباعد منها.
[25] ويفرّق بين ما تقارب منها.
[26] ليس له حدود.
[27] وليس له عدد كي يعدّ ويحسب.
[28]  فالآلات تتواجد بقرب بعضها لتؤدي عملها، وتساعد بعضها، وهذا منتفي عن صفات الله سبحانه وتعالى في التواجد والحد بمكان.
[29] والآلات تشير إلى بعضها البعض كخطوط السير، وهذا أيضاً منتفي عن ذات الله سبحانه وتعالى، لكن السؤال هنا، من أين أتى مولانا أمير المؤمنين بهذا التشبيه البليغ؟ وما أدراه بخطوط سير الآلات التي لم توجد إلا في القرن التاسع عشر؟
[30] منذ التي تختص بالزّمان. فهي لا تعدّ قديمة، لأن لها "منذ"، أي توقيت بداية مهما أغرق في القدم.
[31] وقد تقال لتحقيق شيء ما، فهذه الأدوات "قد" حققها شرط ما، فهي إذا مسبوقة وليست أزليّة.
[32] وأيضاً فإن كلمة "لولا" تشير إلى اشتراط حال ما للاستمرار، مما يمنع امتداد هذه الآلات إلى الأبد. وكل هذه الصفات خلقها الله في مخلوقاته، ويشير بها أمير المؤمنين عليه السلام، أنها من مستوجبات النفي عن صفاته سبحانه وتعالى، فهو قائم من غير منذ ولا قد ولا لولا.
[33] بهذه القوانين الأزليّة تجلّى الله للعقول، أي بنفي صفات المخلوق كليّة عن الخالق.
[34] فكيف تجري عليه قوانين هو أجراها على خلقه، والإنسان العاقل يرى نتائجها من البلاء والقدم وفساد الأشياء التي تجري عليها العوامل، وهذا ما لا يمكن أن ينطبق على خالق هذه الأشياء، سبحانه وتعالى.
[35] فلا يمكن أن يجري عليه ما أبداه هو من قوانين البلاء والتغيّر.
[36] ولا يمكن أن يحدث له، ما أحدثه هو سبحانه وتعالى.
[37] فلو افترضنا أنّ ذلك ممكن الحدوث، إذا لتغيّرت ذات الله تبعاً للقوانين التي ابتدعها.
[38] ولتجزّأت كينونته.
[39] فلو حدث ذلك، لكان الله -والعياذ بالله محدثاً مثل خلقه- ولانتفى مع ذلك الأزل ومعناه.
[40] فلو كان له خلف لكان لله أمام، والعياذ بالله.
[41] ولكان يبحث طوال الوقت عن التمام، كما هي الأشياء المخلوقة.
[42] ولتجلّت قوانين الخلق فيه، أي قوانين القدم والفساء والبلي.
[43] ولأصبح الخالق -سبحانه- دليلاً على وجود من خلقه، ولم يعد مستدلاً عليه، وهنا اتبّع أمير المؤمنين أسلوب الفلاسفة الوجوديين في طرح تساؤلاتهم ونفيها منطقيا بالبديهيّات، وذلك للاستدلال على صحّة نظريّاتهم، وهو ما يسمّى بعلم "الأبستمولوجيا".
[44] بخاصيّة امتناع حدوث ذلك عليه.
[45] فهو سبحانه وتعالى لا يتحوّل ولا يزول.
[46] ولا يجوز عليه الغياب.
[47] لم يولد فيكون محدودا بحدود الصغر والكبر.
[48] لا نستطيع توهّمه بالخيال، لأن أي وهم سوف يحدّه سبحانه وتعالى.
[49] لا تتوهمه الأفكار، فتوجد له صورة، لأن لا شبيه له سبحانه وتعالى.
[50] غير محسوس بالحواس.
[51] لا يتجّزأ.
[52] ولا يعرض له شيء يغيّر حاله، كمرض أو اختلال أو أي شيء يمكن أن يؤثّر به سبحانه وتعالى.
[53] ولا يعتمد على غيره في وجوده، ولا يمكن تبعيضه وتجزيئه.
[54] لا يمكن للأشياء أن تحويه، فتقلّه كمركبة مثلاً.
[55] أو يمكن لشيء أن يُبقي به إذا تعب من حمله مثلاً، والعياذ بالله.
[56] يميل به، أو يعود ليتوازن به.
[57] لا يدخل في الأشياء.
[58] ولا يخرج منها سبحانه وتعالى.
[59] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٣ - الصفحة ٦٩.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى