خطبة رقم (183) للإمام علي (عليه السلام): الوصيّة بالتقوى والتزوّد للآخرة

2023.07.18 - 04:12
Facebook Share
طباعة

 قال الامام علي بن ابي طالب عليه السلام

"وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ([1])، وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ. فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ([2])، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ([3])، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ([4])، إِن أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ([5])، وَإِن أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ([6])، قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً([7])، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً([8])، وَلاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً([9]). وَاعْلَمُوا أَنَّهُ (مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) مِنَ الْفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ، وَيُخَلِّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ، فِي دَار اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ([10])، ظِلُّهَا عَرْشُهُ، وَنُورُهَا بَهْجَتَهُ، وَزُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ، وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ. فَبَادِرُوا الْمَعَادَ([11])، وَسَابِقُوا الاْجَالَ([12])، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الاْمَلُ، وَيَرْهَقَهُمُ الاْجَلُ([13])، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ([14])، فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ([15]مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَأَنْتُمْ بَنُو سَبِيل([16])، عَلَى سَفَر مِنْ دَار لَيْسَتْ بِدَراِكُمْ([17])، وَقَد أُوذِنْتُمْ مِنهَا بِالارْتِحَالِ([18])، وَأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ([19]). وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا. أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ([20])، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ([21])، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ([22])؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَار([23])، ضَجِيعَ حَجَر([24])، وَقَرِينَ شَيْطَان([25])؟! أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً([26]) إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضَاً لِغَضَبِهِ، وَإِذَا زَجَرَهَا([27]) تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبوَابِهَا([28]) جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ؟! أَيُّهَا الْيَفَنُ([29]) الْكَبِيرُ، الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتَيرُ([30])، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الاْعْنَاقِ([31])، وَنَشِبَتِ الجَوَامِعُ([32]) حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ؟ فَاللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ! وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ([33])، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ([34])، فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا([35])، أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ([36])، وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ([37])، وَاسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ([38])، وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ([39])، وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ تَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسَكُمْ([40])، وَلاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)، فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ([41])، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ([42])، اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحُكِيمُ، وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ (يَبْلُوَكُمْ([43]) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللهِ فِي دَارِهِ، رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ([44])، وَأَزَارَهُمْ مَلاَئِكَتَهُ([45])، وَأَكرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ([46]) نَار أَبَداً، وَصَانَ أَجْسَادَهَمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً([47])، (ذلِكَ فُضْلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"([48]).


[1] غاية مرضاته.
[2] أنتم في عين رعاية الله.
[3] أي أ، التحكم فيكم بيد الله، ناصية الدّابة بيد فلان، أي أنّه يتحكّم بها.
[4] تغير أحوالكم بيده.
[5] يعلم سرّكم.
[6] يكتب ما تعلنون من أقوال وأفعال.
[7] الملائكة الكرام الحافظين لما نفعله، الكاتبين ما نقوم به.
[8] لا ينسون كتابة شيء مما نقوم به.
[9] ولا يمكن أن يكتبوا شيئاً لم تقم به، أي أنّهم لا يزوّرون شيئاً فيما يكتبونه.
[10] خلقها لأجل جلاله، فجعلها كما يحب هو.
[11] فبادروا إلى تحسين أحوال معادكم من الآن، قال الله تعالى: "ولتنظر نفس ما قدّمت لغد". أي أنك ترى منذ اليوم ما ستعيشه وتعاينه غداً.
[12] اسبقوا آجالكم بتأمين حياتكم الآخرة.
[13] يهلكهم.
[14] يغلق عليهم الموت باب التوبة الذي كان مفتوحاً لهم طوال عمرهم.
[15] ستسألون الله الرّجعة إلى الحياة ثانية لكي تستدركوا ما فاتككم من أعمال صالحة، ولكن هذا محال أن يحدث.
[16] أنتم عابرو سبيل في هذه الحياة الدنيا.
[17] هذه الدنيا هي محطّة، وليست دار إقامة.
[18] لقد أعلمكم الله سبحانه وتعالى بأنّكم مغادرون مرتحلون.
[19] وأمركم الله بتحصيل الزّاد منها لسفركم.
[20] تألم الإنسان ومعاناته من الشوكة إذا شاكته.
[21] وزلّة القدم قد تُسيل دمه.
[22] تحرقه الشّمس.
[23] فكيف إذا كان مقام الإنسان بين نارين من أعلاه وأسفل منه؟
[24]ينام على الأرض الحارّة.
[25] وشريكه في زنزانته شيطان مرعب.
[26] الملاك الموكل بأمر جهنّم.
[27] صاح بها.
[28] هبّت النّار وتأججت بين أبواب حجراتها.
[29] الشيخ المسن.
[30]  خالط الشيب شعره.
[31] تلتحم أطواق الحديد بالعنق لطول المدّة وشدّة الحرارة.
[32] وغرزت قيود المعصم باليدين.
[33] اتّقوا الله واغتنموا صحّتكم قبل مرضكم الذي حتماً سيمنعكم من التزوّد لأخراكم.
[34] واغتنموا فسحة الأجل قبل ضيق الوقت عليكم.
[35] أُغلق الرّهن: أي استحقّ المرهون لصاحب الدين كون المدين لم يسدد مبلغ الرّهن في الوقت المحدد.
[36] قللوا نومكم، واسهروا في عبادة الله.
[37] خففوا طعامكم، وصوموا لله.
[38] استعملوها بالسّعي لما يرضي الله.
[39] أنفقوها في الزّكاة ووجوه الخير.
[40] قدّموا من صحّتكم لآخرتكم.
[41] إنّ الله لم يطلب منكم النّصرة لضعفه والعياذ بالله.
[42] ولم يطلب منكم إنفاق أموالكم لفقره والعياذ بالله.
[43] إنما هو امتحان لنا، ليعطينا نتيجته.
[44] كانوا أخلاء لله سبحانه وتعالى في جنّته.
[45] وجعل الملائكة تزورهم.
[46] أكرمهم بمنع صوت حسيس النار عنهم.
[47] التعب والمشقّة.
[48] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ – الصفحة 111 - ١١٤.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى