خطبة ملحميّة للإمام علي (عليه السلام)

2023.06.19 - 02:37
Facebook Share
طباعة

 قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، في بداية خطبته واصفاً حلال الله، وعزّته:

"الْحَمْدُ للهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ([1])، وَالظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ([2])، خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة([3])، إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِذَوي الضَّمائِرِ([4])، وَلَيْسَ بِذِي ضَمِير فِي نَفْسِهِ([5])، خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ([6])، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ([7])"([8]).
ثمّ ينتقل (عليه السلام) إلى الكلام عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فيقول:
"اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاءِ([9])، وَذُؤَابَةِ([10]) الْعَلْيَاءِ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ([11])، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ([12])، وَأمْضى مَوَاسِمَهُ([13])، يَضَعُ من ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوب عُمْي، وَآذَان صُمٍّ، وَأَلْسِنَة بُكْم; مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ"([14]).
ثمّ يتحدّث الإمام عليه السلام في خطبته عن جهل أهل الجاهليّة قبل بعثة النّبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فيقول:
"لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ([15]); فَهُمْ فِي ذلِكَ كَالأنْعَامِ السَّائِمَةِ([16])، وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ. قَدِ انْحابَتِ السَّرائِرُ([17]) لأهْلِ الْبَصَائِرِ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا([18])، وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا([19])، وَظَهَرَتِ الْعَلاَمَةُ لِمتَوَسِّمِهَا"([20]).
ولخذلان أصحابه، وتقاعسهم عن النهوض بدورهم خلف قيادته نصيب من المقال، عسى أن يستجيبوا وينصروا الباطل قبل وقوع المحذور:
"مَا لي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاح([21])، وَأَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاح([22])، وَنُسَّاكاً بِلاَ صَلاَح([23])، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاح([24])، وَأَيْقَاظاً نُوَّماً([25])، وَشُهُوداً غُيَّباً([26])، وَنَاظِرَةً عُمْيَاً([27])، وسَامِعَةً صُمَّاً([28])، وَنَاطِقَةً بُكْماً([29]) رَايَةُ ضَلاَلة قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا([30])، وَتَفرَّقَتْ بِشُعَبِهَا([31])، تَكِيلُكُمْ([32])بِصَاعِهَا، وَتَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا([33]). قَائِدُهَا خَارجٌ مِنْ الْمِلَّةِ([34])، قَائِمٌ عَلَى الضِّلَّةِ([35]); فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذ مِنْكُمْ إِلاَّ ثُفَالَةٌ([36]) كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ، أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ([37])، تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الأدِيمِ([38])، وَتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصَيدِ([39])، وَتَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتَخْلاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ([40]) مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ.أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ([41])، وَتَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ([42])، وَتَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ؟([43]) وَمِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ؟ وَأَنَّى تٌؤْفَكُون؟([44]) فَلِكُلِّ أَجَل كِتَابٌ([45])، وَلِكُلِّ غَيْبَة إِيَابٌ([46])، فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ([47])، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ([48])، واسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ([49])، وَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ([50]) أَهْلَهُ، وَلْيَجْمَعْ شَمْلَهُ([51])، وَلْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ([52])، فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الأمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ([53])، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ([54])"([55]).
ثمّ ينتقل أمير المؤمنين عليه السلام ليخبرنا عن صفات آخر الزّمان بقوله:
"فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ([56])، وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ([57])، وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ([58])، وَهَدَرَ فَنِيقُ([59]) الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُوم([60])، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجْورِ([61])، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ([62])، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ([63])، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ([64]). فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً([65])، وَالْمَطَرُ قَيْظاً([66])، وَتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً، وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً([67])، وَكَانَ أَهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلاَطَينُهُ سِبَاعاً، وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالاً([68])، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً، وَغَارَ الصِّدْقُ([69])، وَفَاض الْكَذِبُ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً([70])، وَالْعَفَافُ عَجَباً([71])، وَلُبِسَ الإسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً([72])"([73]).


[1] يتجلّى على خلقه في عظمة ما خلق وأخرج لهم. ولا يمكن أن يكون المعنى أنّه يتجلّى في خلقه بأي حال من الأحوال.
[2] حجّته واضحة في قلوبهم.
[3] من غير فكرة وتخطيط.
[4] فالتفكير ملكة يختص بها أصحاب العقول.
[5] والله تعالى عالم من غير الحاجة للتعلّم، عاقل مريد من غير الحاجة للعقل والإرادة.
[6] لا شيء يخفى على علمه، ولا شيء يُستر أمامه.
[7] يعرف أعمق السرائر والعقائد الباطنيّة.
[8] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ٢٠٦.
[9] مركز النّور الكوني، الذي جعل الله فيه القدرة وأوكل بها تسيير أمور الكون قال تعالى: "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح.. إلى آخر الآية الكريمة".
[10] أعلى الرأس، أي خلق الله نبيّه الكريم من أعلى أرومات الشرف والعلا.
[11] أشرف أشراف مكّة.
[12] مراهم طبّه محكمة الشفاء، لا محالة.
[13] مكاويه (من التداوي بالكيّ) شافية.
[14] نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 1 – الصفحة 207.
[15] قدح الزّناد، حجر يقدحونه لإشعال النّار في القش، أي أنهم لم يبادروا مطلقاً لإشعال النور في ظلمة أيامهم، ولم يبادروا لتعلّم أي شيء.
[16] الشاردة.
[17] انحابت الناقة، أي استسلمت للحلب، والمعنى أنّ الحقيقة تستسلم وتنصاع للباحث عنها.
[18] سهلت الطريق للسائر عليها.
[19] كشفت.
[20] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ٢٠٧.
[21] أشكال لا روح فيها.
[22] وأرواحاً بلا أجسام تسكنها. وكل هذا كناية عن الضياع وقلّة العزم.
[23] تتعبدون الله من غير تقوى.
[24] عباداتكم التي تتاجرون بها مع الله لا أجر فيها.
[25] متيقظي الأعين نائمي القلوب.
[26] حاضرون غائبون. أي لا فائدة من حضوركم.
[27] تنظر عيونكم، ولكنكم لا تبصرون.
[28] تسمعون ولا تفقهون.
[29] تنطقون نطق الأبكم الذي لا يستطيع أن يوصل فكرته للآخرين.
[30] استطاعت أن تقوم وتنتظم وأنتم متقاعسون عن مقاومتها.
[31] بدأت أغصانها تتفرّع، وتنمو.
[32] تملأ لكم من مكاييلها.
[33] تضربكم بيدها الطويلة الممدودة.
[34] زعيمها مارق من الدين.
[35] ملكه قائم على الضلال والخروج على إمام الزّمان.
[36] لن يبقي منكم غير القليل، كالثفل في قعر الإناء.
[37] الغبار الذي يبقى في كيس العلف بعدما تأكله الماشية.
[38] راية الباطل تلك ستعجنكم كما يُعجن طين الأرض حين تدوس عليه النّاس.
[39] وستدوسكم دوس الحصيد لاستخراج الحب منه.
[40] وسيستخرجون المؤمن من بين الجموع استخراج الطير للحبّة السمينة من بين الحبوب الهزيلة.
[41] إلى أين تذهبون في تقاعسكم هذا؟
[42] تضيعكم الظلمات.
[43] تصدّقون المكذوبات.
[44] إلى متى تكذبون، وتصدقون الكذب؟
[45] لكل غاية توقيت.
[46] لكل ذهاب عودة.
[47] استمعوا نصائح الرّباني الذي أوكله الله أموركم، ويقصد به نفسه علسه السلام، أي اسمعوا أوامر إمامكم ونفذوها كي تنجوا.
[48] خلوا قلوبكم معه.
[49] قوموا معه إن صاح بكم.
[50] وكونوا روّاداً صادقين لأهلكم. والرّائد هو الذي يتقدم أهله لاستكشاف الماء والكلأ.
[51] ليجمع كل منكم شتات أمره، وليعزم وليتوكل على الله.
[52] ليكون ذهنه حاضراً.
[53] أي لقد تقشّرت البذرة، فلا تتأخروا في أمر زراعتها وإلا فإنها تفسد.
[54] غلاف البذرة.
[55] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ٢٠٩.
[56] ما يطغى على الإنسان من دواهي ذلك الزمان.
[57] الدّعاة إلى الحق.
[58] السبع المسعور.
[59] ذكر الإبل الهائج الذي يريد التزاوج.
[60] بعد إفلاته من الكظوم، والمنع.
[61] تآخى الناس على الفجور، بعد تآخيهم على الإيمان.
[62] هجروا الدين ومبادئه.
[63] أحبّوا بعضهم على الكذب.
[64] كرهوا بعضهم إذا صدقوا.
[65] غيظاً لأهله بعدما ما كان قرّة عين له.
[66] والمطر يجلب القيظ والتصحّر بلا من الخضرة والبرودة.
[67] تجفّ وتختفي.
[68] الكل يأكل بعضه.
[69] جفّ واختفى.
[70] تسمّت النّاس لتتسمّى بأسماء الفسوق، كعبد الشيطان، أو أبو جهل، أو أبو الجور.
[71] يتعجّب النّاس من العفيف.
[72] كناية عن اختفاء مظاهر الدين الحنيف.
[73] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ٢٠٩.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى