خطبة للإمام علي (عليه السلام): في الزهد في الدنيا، وصفات العالم والغافل، وآخر الزمان

2023.06.19 - 02:36
Facebook Share
طباعة

 قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، واصفاً الدّنيا بأنّها زائلة، وكلّ ما فيها زائل، وأنّها ستزيل الجميع دون استثناء، وأن فرحها وهم، وقوّتها وهن، ولا نستطيع أخذ شيء منها معنا، فاتعظوا يا أولي الألباب، واجتنبوها، وتعاملوا معها تعامل المعرضين عنها:

"أَيُّهَا النَّاسُ، انْظُرُوا إِلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِينَ([1]) عَنْهَا; فَإِنَّهَا وَاللهِ عَمَّا قَلِيل تُزِيلُ الثَّاوِيَ([2]) السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ([3]) الاْمِنَ، لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مَنْهَا فَأَدْبَرَ([4])، وَلاَ يُدْرَى مَا هُوَ آت مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ([5]). سُرُورُهَا مَشُوبٌ([6]) بِالْحُزْنِ، وَجَلَدُ([7]) الرِّجَالِ فَيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ([8])، فَلا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا([9]). رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، واعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدٌّنْيَا عَنْ قَلِيل لَمْ يَكُنْ([10])، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الاْخِرَةِ عَمَّا قَلَيل لَمْ يَزَلْ([11])، وَكُلُّ مَعْدُود مُنْقَض([12])، وَكُلُّ مُتَوَقَّع آت([13])، وَكُلُّ آت قَرِيبٌ دَان([14])"([15]).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، مفرّقاً بين العالم والجاهل بأسلوب واضح لا يدع مجالاً للبس، فمن جهل قدر نفسه، لا يمكن أن يكون عالماً بأي شيء، وأنّ الله يبغض هكذا إنسان، يكدّ للدنيا فقط، وينسى السّعي للآخرة:
"الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَكَفَى بِالْمَرءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ; وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ لَعَبْدٌ وَكَّلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ([16])، جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ([17])، سَائِرٌ بَغَيْرِ دَلِيل([18])، إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ([19]) الدُّنْيَا عَمِلَ، أوْ إِلَى حَرْثِ الاْخِرَةِ كَسِلَ([20]) كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ([21])، وَكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ([22]) سَاِقطٌ عَنْهُ"([23]).
ثمّ يصف مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) زماناً سيأتي، لا ينجو فيه إلا الأخيار، زمان سيكون فيه الإسلام محرّفاً مبدّلاً كما يهوى أصحاب النّفوس الضّعيفة:
"وَذلِكَ زَمَانٌ لاَ يَنْجُو فِيهِ إِلاَّ كُلُّ مُؤْمِن نُوَمَة([24])، إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ([25])، وَإِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ([26])، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى، وَأَعْلاَمُ السُّرَى([27])، لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ([28])، وَلاَ الْمَذَايِيعِ([29]) الْبُذُرِ([30])، أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ، وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ. أَيُّهَا النَّاسُ، سَيَأْتي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الاْسْلاَمُ([31])، كَمَا يُكْفَأُ الاْنَاءُ بِمَا فِيهِ([32]). أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ([33]) مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ([34])، وَلَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيكُمْ([35])، وَقَدْ قَالِ جَلَّ مِنْ قَائِل: (إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)"([36]).


[1] المعرضين عنها.
[2] تزيل المقيم فيها، أي أنها ترحلّه عنها.
[3] تبتلي البطران.
[4] ما فات منها لا يعود.
[5] لا يُعلم الآتِ مع المستقبل كي ننتظره.
[6] ممزوج.
[7] قوّة.
[8] الاضمحلال.
[9] لا تستطيع أن تأخذ منها معك شيئاً.
[10] كأنّ ما فات من الدنيا لم يكن.
[11] وكأنّ ما سنلاقيه من الآخرة بعد قليل قد كنا فيه أبد الدّهر.
[12] كل ما تستطيع عدّه فإنّه قابل للنقصان.
[13] كل ما تتوقعه ستعاينه قريباً.
[14] أقرب مما نتصوّر.
[15] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٧ - الصفحة ١٠٥.
[16] تركه الله إلى نفسه توسوس له وتغريه بعلوّ شأنه.
[17] متحول عن الصراط المستقيم.
[18] يمشي في صحراء الحياة بغير دليل، وبالتالي سيضيع حتماً ويهلك.
[19] إذا بدر له مصلحة وفائدة عاجلة عمل لها.
[20] لكنه يكسل عن أي عمل يفيد آخرته.
[21] ينظر للفائدة والمصلحة الدنيويّة كأنّها الواجب.
[22] ويرى كلّ ما استمهل في فعله كأنه غير واجب.
[23] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٧ - الصفحة 108.
[24] قال أمير المؤمنين: الناس نيام، فإذا ما ماتوا انتبهوا، ويقصد هنا بمؤمن نومة، أنها لا ينام في الدنيا وإنما يبقى منتبهاً قبل الموت، وبانتباهه ينجو.
[25] غير مدّع للشهرة، ولا يهمه ما يهم الناس من ذلك، فهو غير معروف بما يشتهر به الناس في تلك الأيام، ككثرة المال أو السلطة، أو الفن ربما.
[26] لا أحد يسأل عنه في غيابه.
[27] القامات العالية كالجبال، الأشراف الحقيقيين.
[28] الذين يسيحون في الأرض فساداً.
[29] الذين يذيعون الأخبار، ويهذرون ويتكلمون كثيراً بالنميمة وغيرها.
[30] المبذرين.
[31] يرمى في الإسلام.
[32] كما يُرمى الطعام من الوعاء الذي يحتويه.
[33] حماكم، وأمنّكم.
[34] من أن يظلمكم.
[35] ولكنّه لم يؤمّنكم من الابتلاء.
[36] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٧ - الصفحة ١٠٩.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى