الإمام علي (عليه السلام) في الأدب الأوروبي الحديث

2022.02.21 - 08:55
Facebook Share
طباعة

بعيدًا عن السرد التاريخي الرتيب، حضر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الأدب الأوروبي الحديث على هيئة صور نثرية جاءت متفرّقة ومتباعدة، لا رابط بينها ولا اتصال، متفرّقة في جهة مواضعها ما بين كتابات وتأليفات أدبية، وفكرية وتاريخية متناثرة، صنّفت بلغات مختلفة ألمانية وإنجليزية وفرنسية، ومتباعدة في جهة أزمنتها، فصلت بينها سنوات طويلة، يؤرّخ لها ما بين النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي إلى ما قبل نهاية القرن العشرين.
لذا كان من الصعب الالتفات إلى هذه الصور، والعمل على الجمع بينها ضمًّا واتصالًا، وتحويلها إلى نسق أدبي متماسك، يعرف بهذه الصفة، ويمكن أن يؤرّخ له عند الأوروبيين، ويكون شاخصًا عند غيرهم وظاهرًا لمن يريد أن يؤرّخ له منسوبًا إلى الأدب الأوروبي الحديث.
ولعل من غير الممكن الإقدام على هذه الخطوة عند الأوروبيين، إلَّا بدافع قوي يتلمّس حسّ الارتباط الإنساني بالإمام بوصفه مجسّدًا للمُثُل العليا، وكونه يمثّل نموذجًا أخلاقيات ساميًا، وباعتباره يعدّ عظيمًا من عظماء الإنسانية الكبار.
ونادرًا ما نجد بين الأوروبيين من نظر إلى الإمام بهذا الأفق، وتعامل معه بهذه الطريقة التي تُغلّب حماسة القلب، وحرارة العاطفة، وقوة الضمير.
عند الاقتراب من هذا الموضوع، لا بد من الالتفات إلى الأديب اللبناني المسيحي جورج جرداق الذي خصّص قسمًا من الجزء الخامس في موسوعته الشهيرة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، متحدّثًا فيه عن علاقة بعض الأدباء الأوروبيين بالإمام بعنوان: (الأوروبيون والإمام).
ولعل جرداق هو أوّل من طرق هذا الباب في تاريخ تطوّر الأدب العربي الحديث، مقدّمًا نصًّا وجيزًا، لكن لا غنى عنه لكل من يتناول هذا الموضوع بحثًا وتصنيفًا.
حاول جرداق في هذا النص لفت الانتباه إلى نفر قليل من الأوروبيين -غير المستشرقين- عدّهم عباقرة، حيَّا فيهم النزعة الإنسانية الشريفة، التي لا تتأثر بحدود بين شرق وغرب، ولا تأبه للأضاليل التاريخية التي تقيم الحواجز بين شعب وشعب. في طليعة هؤلاء العباقرة الأوروبيين، الذين رأى فيهم جرداق أنهم أخلصوا للعفوية في طبائعهم، وللوجدان والمنطق في أحكامهم، الألماني جوته، والإنجليزيين كارليل وجورج برناردشو، والفرنسيين الشاعر لامارتين والمؤرّخ غوستاف لوبون، والإيطالي الشاعر كاتياني، وهناك الكثير غيرهم حسب قول جرداق.
وحين التفت جرداق إلى المستشرقين رأى من الطبيعي أن يكون الإمام في طليعة من دارت عليه أبحاثهم، ووقفوا عند شخصيته الفذّة، وأطالوا الوقوف عليها، وليس مستغربًا -في نظر جرداق- أن يقودهم البحث إلى إجلال الإمام وحبه وإيثاره، مستثنيًا أولئك النفر الذين تعصّبوا عليه أشدّ تعصّب، تدفعهم دوافع من نسيج العصر الذي يريد العمل السياسي والإداري خاليًا من المعاني الخلقية الإنسانية المشرفة، خاصًّا بالذكر المستشرق البلجيكي هنري لامنس (1862-1937م)، الذي اعتنى بدراسة الأمويين عصرهم ودولتهم مقدّمًا في هذا الشأن دراسات عدة.
هذه الدراسات تتبّعها الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917-2002م) وقام بتعدادها في موسوعته عن المستشرقين، واصفًا لامنس في مفتتح الحديث عنه أنه "شديد التعصّب ضد الإسلام، يفتقر افتقارًا تامًّا إلى النزاهة في البحث، والأمانة في نقل النصوص وفهمها، ويعدّ نموذجًا سيئًا جدًّا للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين"
وعلى طريقة جرداق سوف نجتزئ بعض الصور المتفرّقة والمتباعدة، لعدد من الأسماء الأوروبية اللامعة التي خصّت الإمام بكلمات جاءت في سياق التبجيل والتعظيم، نعرض لها بحسب تعاقبها الزمني، متغافلين عن تلك الأحاديث الكثيرة التي جاءت على ذكر الإمام بطريقة السرد التاريخي في كتابات فكرية وتاريخية من دون أن تقدّم صورًا عن الإمام على هيئة نظرات أو انطباعات.
- توماس كارلايل (1795-1881):
فيلسوف ومؤرخ وكاتب إسكتلندي، وناقد ساخر. كان لأعماله تأثير كبير بالعصر الفيكتوري، وهو من عائلة كالفينية[1] متدينة، أملت أن يصبح واعظاً، إلا أنّه فقد التزامه الدينيّ أثناء دراسته بجامعة إدنبرة، ومع ذلك بقيت القيم الكالفينيّة تلازمه طوال حياته. من أشهر الكتّاب الذين تمّيزوا بنظريات خاصّة، إذ عُرف بتفسيره التاريخ والانبعاثات الحضارية على أساس جهود الأبطال، فهو يؤكِّد أن تقدّم الأُمم انعكاس، وتطور للهمّة العالية لدى بطل يظهر في تلك الأُمّة.
يصنف كارلايل الأبطال في كتابه الذي يحمل اسم (الأبطال) أيضاً، إلى صور مختلفة يظهرون بها، ويحيون بها أُممهم، فمنهم البطل في صورة إله ومثاله المسيح، والبطل في صورة نبيّ، ونموذجه الرسول محمّد (ص)، وهنالك الأبطال في صورة شعراء كشكسبير ودانتي.
ويعرّج كارلايل في كتابه الأبطال إلى شيء من سيرة عليّ بن أبي طالب (ع)، وخصاله فيقول مشيداً بهذا البطل الإسلامي الفذ: "أمّا عليّ، فلا يسعنا إلّا أن نحبّه ونتعشقه، فإنّه فتىً شريف القدر، كبير النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظّى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنّها شجاعة ممزوجة برقّة ولطف، ورأفة وحنان، جدير بها فرسان الصّليب في القرون الوسطى. وقد قُتِلَ بالكوفة غيلة، وإنما جنى ذلك على نفسه بشدّة عدله، حتى حسب كلّ إنسان عادلاً مثله، وقال قبل موته حينما استشير في أمر قاتله، إن عشت، فالأمر إليَّ، وإن متُّ فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا، فضربه بضربة، وإن تعفوا أقرب إلى التقوى".
- يوهان غوته (1749-1832):
يعتبر واحدًا من ألمع الأسماء الأدبية، ليس على مستوى تاريخ تطور الأدب الألماني الحديث فحسب، وإنما على مستوى تاريخ تطوّر الأدب الأوروبي الحديث عمومًا. عُرف بحسّه الإنساني، وقوة شاعريته، وانفتاحه على الثقافات والآداب الأخرى غير الأوروبية. أنجز أعمالًا أدبية كسبت إعجاب الأمم والشعوب ما بين الغرب والشرق، وحظي بالتبجيل والتقدير بين الأدباء حتّى خلعوا عليه لقب شاعر ألمانيا العظيم.
ارتبط غوته بعلاقة وثيقة مع الثقافة الإسلامية، التي مثّلت له مصدر إلهام أدبي وأخلاقي وإنساني، كاشفًا عن هذه العلاقة ومعتزًّا بها، ومعبّرًا عنها بطريقة أثارت دهشة الأدباء والباحثين، الغربيين والشرقيين على حدٍّ سواء، وذلك بلحاظ قوّتها وزمنها، ووضوحها وعمقها، حيث ظهرت متجلية في أصناف أدبه نثرًا وشعرًا وروايةً ومسرحًا.
ومن بين أهمّ ما تركه لنا غوتّه في هذا المجال، قصيدة سمّاها غوته (نشيد محمد) نظمها سنة 1773م، فهي رأت أن هذه القصيدة: "تصوّر النبي بصفته هاديًا للبشر في صورة نهر يبدأ بالتدفق رفيقًا هادئًا، ثم لا يلبث أن يجهش بشكل مطّرد ويتحوّل في عنفوانه إلى سيل عارم، وهي تصوّر اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصب أخيرًا في البحر المحيط رمز الألوهية".
نظم غوته قصيدته هذه على شكل حوار بديع ومدهش، جرى على لسان اثنين هما من أقرب الناس وأحبهما إلى النبي، بين الإمام عليّ بن أبي طالب، وبين السيدة الصديقة فاطمة الزهراء.
في هذا العمل البديع جمع غوته قاصدًا وعارفًا بين محمد وعلي وفاطمة، الذين هم من أشرف الخلق وأطهرهم على وجه الأرض، حاكيًا عن النبي بصفته هاديًا للبشر على لسان عليّ وفاطمة، هذه اللفتة لم تكن بعيدة عن عبقرية غوته، وذكائه ونباهته وقوة ملاحظته.
من الجدير بالذّكر، أنّ هذه اللفتة المدهشة لم تقفز إلى ذهن غوته صدفة، ولا بعفوية غير مقصودة، ولم تكن مجرّد خواطر عرضت عليه بلا سابق خيال، وإنما كان متنبهًا لمن ينبغي أن يكون حاكيًا عن النبي، متمثّلًا صوته، متقمصًا دوره، مجسّدًا خلقه، عارفًا به، متناغمًا معه، قريبًا منه، مندكًّا فيه، فمن يكون يا ترى! في نظر غوته إنهما: عليّ وفاطمة! كم كنت محقًّا يا غوته ومدهشًا ومصيبًا في هذا الاختيار الذي لم يقوَ عليه بعض المسلمين!
عكس غوته في هذه القصيدة قوّة خياله، وبلاغة بيانه، وجمالية فنّه، ورحابة أفقه، وبعد نظره، مقدّمًا قصيدة بقيت إلى اليوم بعيدة عن أعين الأدباء والنقاد فحصًا وتحليلًا وتفكيكًا في نواحيها الأدبية والجمالية والفكرية.
- هنري كوربان (1903-1978):
 
هنري كوربان فيلسوف ومستشرق فرنسي اعتنى بتاريخ الفلسفة الإسلاميّة،تحدّث كوربان عن الإمام (عليه السلام) في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية)، فذكر نصّاً يتّصل بعلاقة الإمام بالنبي (ص)، إذ رأى كوربان أنّ الإمام من بين البشر جميعًا هو أقرب الناس إلى الرسول، تربط بينهما قرابة روحية، ونسب معنوي قبل القرابة الدنيوية الزمنية، مستدلًّا على ذلك بما يروى عن النبي قوله: "أنا وعليّ من نور واحد".
مما قاله أيضاً بما يختصّ بكتاب (نهج البلاغة)، إذ كشف كوربان عن قيمته ومنزلته، ومرجعيته الدينية والفلسفية والأدبية، قائلًا: "الكتاب عبارة عن مجموعة خطب الإمام الأول عليّ بن أبي طالب، بما فيه من مواعظ وأحاديث ورسائل، وتأتي أهميّة هذا الكتاب في الدرجة الأولى بعد القرآن وأحاديث النبي، ليس بالنسبة للحياة الدينيّة في التشيع عمومًا وحسب، بل بالنسبة لما في التشيّع من فكر فلسفي. ويمكن اعتبار نهج البلاغة منهلًاً من أهمّ المناهل التي استقى منها المفكّرون الشيعة مذاهبهم والتي كانوا ينادون بها... وإنّك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصورة جمّة من الترابط المنطقي في الكلام، ومن استنتاج النتائج السليمة، وخلق بعض المصطلحات التقنية العربية التي أدخلت على اللغة الأدبية والفلسفية، فأضفت عليها غنى وطلاوة، ذلك أنّها نشأت مستقلّة عن تعريب النصوص اليونانيّة... ونحن عندما نعود إلى أحاديث الإمام مع تلميذه كميل بن زياد، عندما يجيب عن هذا السؤال: ما هي الحقيقة؟ وعندما يصف التعاقب الباطني للحكماء في العالم.. إلخ، نجد في هذه الصفحات نموذجًا خاصًّا من التفكير يتّسم بطابع يميّزه عن غيره".
 
 
 
- جرهارد كونسلمان:
 جرهارد كونسلمان كاتب ألماني مهتم بالمنطقة العربية، ومتابع لما يجري فيها من أحداث وتطوّرات، له كتابات ومؤلفات في هذا الشأن تتّسم بالرّصد وحسّ المتابعة، نشر كتابًا عن إيران يؤرّخ فيه حدث الثورة في عقدها الأول الممتد من سنة 1979م إلى سنة 1989م.
افتتح كونسلمان كتابه بمدخل تاريخي موسّع، جاء بعنوان: (محمد وعليّ)، تحدّث فيه عن العلاقة العميقة بين النبيّ والإمام، متتبعًا أطوار هذه العلاقة، مبتدئًا من هجرة النبيّ من مكّة إلى المدينة، مستندًا في مرويّاته إلى ابن إسحاق وسيرته النبويّة، مضمّنًا فيه بعضًا من نظراته، وانطباعاته عن الإمام، منها أن الإمام هو أول إنسان آمن بالعقيدة الإسلاميّة بعد النبي محمد، وتعلّم أن يثق بمحمد، فقد أقام في بيته منذ كان طفلًا.
ومن استشراقات كونسلمان وانطباعاته ما أشار إليه حينما تحدّث عن تولي الإمام الخلافة، وسعيه لإعادتها إلى المبادئ التي أرساها النبي، قائلًا: "وقد حاول عليّ كخليفة إعادة فكر المؤمنين مرّة أخرى إلى أصوله الأولى، أيّ إلى المبادئ التي أرساها النبي، فأحسّت النخبة في مكّة، والمدينة بثوريّة هذا الرّجوع إلى الأصل بالذات، إلَّا أنّهم كانوا يرون أنّ زمن الثّورة قد ولّى".
ومن كتابه أيضاً، ما أشار إليه حين تحدّث عن نقل الإمام الخلافة من المدينة إلى الكوفة، وكيف استطاع أن يطبّق فيها مبادئ حكمه، قائلًا: "وصار لعليّ في بلاد الرّافدين سلطة لا ينازعه فيها أحد، واستطاع في هذه البلاد أن يطبّق مبادئ حكمه، وأن يحقّق في الواقع مبادئه المثالية كحاكم عادل، ولم يستطع أحد أن يقول عنه أنّه ارتكب باطلًا".
 
- يان ريشار:
 يان ريشار كاتب وباحث فرنسي، أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة السوربون، له كتابات وتأليفات عدّة في حقل الإسلاميات، قدّم ريشار في كتابه الصادر سنة 1991، بعضًا من رؤيته المتأصّلة عن الإمام، منها ما أشار إليه عند حديثه عن علاقة الإمام بالنبيّ، وكيف أنّه كان قريبًا منه، قائلًا: "إن عليًّا هو ابن أبي طالب عمّ النبي، وكان قد كفل النبيّ بعد موت جدّه الكفيل الأول له، وعلى ذلك فقد كان أخًا للنبي، وكان قريبًا جدًّا منه، ومن المعروف أن عليًّا نام في فراش النبي ليلة هربه إلى المدينة حتّى لا يقتله الكافرون المكّيّون... فضلًا عن أنّه أوّل من آمن برسالة ابن عمّه، وكان عليّ محاربًا، وأمين سرّ النبي وسفيره في بعض الأحيان".
ومن انطباعاته أيضاً، ما أشار إليه عند حديثه عن تسلّم الإمام الخلافة، مميّزًا حكمه قائلًا: "والحق أن المسلمين السليمي النية، يتّخذون من عليّ نموذجًا، كما لو أنّه حتى في القرن العشرين لا يزال أمثل صورة للنظام الإسلامي السياسي، ومع أنّه ما من أحد يضع موضع الشك استقامة عليّ وفضيلته، ولا سيّما خلال انتظاره دوره في ممارسة الحكم، فإنّ الخلافات الكبرى والانقسامات المذهبيّة التي لا تقبل الانعكاس قد تمّت في أيامه".
مما استنتجه ريشار كذلك، ما أشار إليه ريشار عند حديثه عن كتاب (نهج البلاغة)، مثنيًا عليه قائلًا: "لا شكّ أن أقوال عليّ ومواعظه ورسائله، التي جمعت بعد ثلاث مائة عام من استشهاده في كتاب هو نهج البلاغة، تشهد على خلق عظيم، أمام الأسلوب كما يراه بعض الكتّاب العرب فإنّه فيما اشتمل عليه من نصائح كريمة، ذات فضيلة نادرة، يبدو كجوهرة من جواهر الأدب العربي".
 
 

 


[1]الكالڤينيّة هي مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جون كالفن، وكان هذا الأخير قد وضع بين عامي 1536م و1559م مؤلّفه والذي يعتبره الكثيرون من أهم ما كتب في الحركة البروتستانتية. انفصل الكالفينيون عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في القرن 16.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى