الإمام علي العادل والإنسان والمؤمن

2020.07.21 - 03:27
Facebook Share
طباعة

 إيمان الإمام علي "ع":
مهما أردنا أن نقول عن إيمان الإمام علي(ع) فان الكلمات تبقى عاجزة عن إيفاء هذه الشخصية ولو جزء قليل جداً من حقها الكبير, الذي يمثل شمسا ساطعة تنير درب المؤمنين نحو الهداية والإيمان مهما حاول المغرضون وأصحاب النوايا السيئة إخفاء هذا النور الساطع والمكانة الكبيرة لها, لأن شخصية الإمام علي(ع) تعتبر حدا فاصلا بين الحق والباطل لان علي مع الحق والحق مع علي لا يفترقان على مر الزمان, وبذلك فإن علي بن أبي طالب هو معيار متكامل لدرجة إيمان الآخرين وصدقهم, فمن أراد رضا الله فعليه أن يستلهم من سيرة أمير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين ووصي رسول رب العالمين المعاني والعبر التي تجعله يسمو بنفسه ويرتقي في حياة الهداية والصلاح ورضاء الله عز وجل والفوز بجنانه يوم الحساب, النبي صلى الله عليه وسلم, الذي قال حين برز أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عمرو بن عبدود: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه".
وبدافع الإيمان وقف الإمام علي(ع) مع الرسول الأعظم (ص) في جميع مراحل الدعوة الإسلامية, منذ بدايتها وحتى استشهاده, فكان خير ناصر ومعين وكان خير مصدق وخير فدائي وخير مجاهد شهدت له ساحات الحروب لإعلاء شأن كلمة الحق.

لم يهن ولم يضعف في يوم من الأيام, مهما تكالبت قوى الكفر والضلالة والنفاق على هذه الرسالة الفتية بإمكانياتها, والكبيرة في معانيها, ودلالاتها التي استطاعت أن تغير وجه التاريخ, وان تنقذ البشرية من الضلالة إلى الهداية والإيمان, فعنه (ع): "ألا أنَ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم".
وهذا ما أكده المؤرخون عبر الأجيال المتلاحقة, فقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة عن إيمان الإمام علي (ع): وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن باللّه وعبده وكلّ من في الأرض يعبد الحجر، ويجحد الخالق, لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم", وذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول اللّه "ص" وإيمانا به, وقال (ع): أنا الصدّيق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام الناس وصليت قبل صلاتهم, هذا هو علي المؤمن, لم ينكر فضله وإيمانه أحد, حتى أنَّ الخليفة عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "لو أنّ السماوات والأرض وضعت في كفّة، ووزن إيمان عليّ لرجح إيمان عليّ".
إن الإمام عليّ(ع)، أول القوم إيماناً، وأكثرهم إسلاماً، وهكذا كان الإمام عندما اشتد الصراع بين عليّ(ع) وعمرو بن ودّ العامريّ، وأراد أن يقتله أمير المؤمنين(ع)، لم يقتله في المرة الأُولى، غضباً لنفسه، ولكنه ترجل وعاد مرةً أُخرى، وعندما سأله رسول الله(ص): لماذا يا عليّ لم تجهز عليه في المرة الأُولى؟ فأجابه: يا رسول الله(ص)، إنني لا أريد أن أنتقم لنفسي، ولكن أريد أن أقتله لله تعالى، ومن أجل الإسلام.

الإمام علي "ع", الإمام العادل
لقد لازمت شخصيةَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب"ع"السامية جوهرةُ العدالة الثمينة، واقترن اسمه المقدس بالعدالة، فقد كان عادلاً يأنس بها ويهتم, ومن مقولاته الخالدة في العدل "والله، لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أو أجرَّ في الأغلال مصفداً أحب إلي من ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام, والله، لو أعطيت الأقاليم السبعة, بما تحت أفلاكها, على أن أعصى الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته.

وأولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام موضوع العدالة اهتماما كبيرا, يتضح ذلك من خلال سلوكه ومن خلال عهوده ورسائله إلى ولاته, بل يمكن القول أنَّ كل أوامر ووصايا الإمام عليه السلام إنما تصب في مجرى أن يكون الحكم عادلا, لذا نجده يقول: "يجب على الإنسان أن يلزم العدل في ظاهر أفعاله, لإقامة أمر سلطانه, وفي باطن ضميره لإقامة دينه"، وإننا لنجد في سلوك الإمام وأقواله مصاديق متعددة لدولة العدل الإلهي التي أرادها.
ومن مظاهر العدل عند الإمام علي "ع" في رسائله إلى الولاة وخطبه ورسائله:

أولاً). إنصاف الحاكم من نفسه:
فقد شدد الإمام علي"ع" على عدالة الحاكم فعليه أن ينصف الناس من نفسه, ومن خاصة أهله, ومن له فيه هوى، وأنَّ من ظلم عباد الله كان الله له خصماً، وأنَّ الظلم سبب أساسي لتغيير نعمة الله وتعجيل نقمته, وفي ذلك يقول الإمام عليه للسلام: (أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ).

ثانياً). عدم استئثار الحاكم نفسه على الناس:
إن حكومة العدل الإلهي التي أسس لها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام تقضي بان لا يأخذ الحاكم (الوالي) لنفسه بشيء يزيد عمّا يأخذه بقية الناس فيما هم فيه سواء فيقول عليه السلام: (وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ). (النهج شرح ابن أبي الحديد 17ص81).

ثالثاً). وجوب عدم المساواة بين المحسن والمسيء:
إنَّ من المتطلبات الأساس لقيام دولة العدل الإلهي كما يراها الإمام عليه السلام وجوب عدم المساواة بين المحسن والمسيء, لأن ذلك يجعل أهل الإحسان يرون أن لا فائدة من الإحسان ولا يقبلون عليه، ويشجع أهل الإساءة على الايغال في الإساءة، ويقول عليه السلام: (وَلَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ).

رابعاً). الاهتمام بالمعوزين والفقراء:
أكَّد عليه السلام على الاهتمام بفقراء الدولة ومساكينها وذوي الحاجة وأهل الفقر الشديد وذوي العاهات, ممن لا حيلة لهم ولا قوة ولا مصادر للرزق وكذلك الأيتام وكبار السن ممن لا معيل لهم مما يجعل الحكم العادل لا يكتمل إلا بإنصافهم، وقال عليه السلام: (وَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ). (النهج شرح ابن أبي الحديد 61ص).

خامساً). وجوب حسن ظن الحاكم برعيته:
من صور العدالة التي أسس لها الإمام علي عليه السلام هي وجوب حسن ظن الحاكم برعيته (الشعب) حتى تسود الثقة بينه وبينهم وان لا يكلف الحاكم مواطنيه إلا بالمقدار الذي بإمكان كل منهم الوفاء به وتأديته، وفي ذلك يقول: (وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا). (النهج شرح ابن أبي الحديد ج17ص34).

سادساً). عدم سفك الدماء دون مسوّغ شرعي:
إن الإمام عليه السلام يؤكد على أن سفك الدماء الحرام لا يقوي السلطان وإنما يضعفه ويوهنه، بل انه يحذر الحاكم حتى من القتل الخطأ الذي يمكن أن يحصل بغير قصد ويوجب عليه دفع الدية لأولياء الدم، فقال: (إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَلَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ وَلَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (النهج شرح ابن أبي الحديد ج17ص79).

سابعاُ). المشاورة والتعاون
يشترط الإمام كما في عهده للأشتر بان لا يدخل في مشورته البخيل الذي يعدل به عن الفضل، ويعده الفقر، ولا الجبان الذي يضعفه من الأمور ولا الحريص الذي يزين له الشره بالجور, فيقول "من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق بينهم".

ثامناً). التواضع والاستماع إلى الرعية:
وهذه الملاحظة تنم عن معرفة دقيقة بالسياسة والحالة الاجتماعية والنفسية للمجتمع والناس, وأوصى الإمام أن لا يكون سفيره إلى الناس إلا لسانه ولا حاجب إلا وجهه وان لا يحجب ذا حاجة عن لقائه به, وأكَّد على ستر عيوب الرعية, ويقدِّم الإمام علي نصيحة إلى الولاة بالابتعاد عن الفخر والتكبر, والدعوة إلى النزاهة, والعلم.

تاسعاً). أولى المرأة اهتماماً خاصاً:
نظر إليها عليه السلام كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم), وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة), فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها, فلا يمكن للزوج التفريط بها.
 
علي بن أبي طالب الإنسان والإنسانيَّة:
إنَّ القيمة عند الإمام علي (ع) كانت للإنسان الذي يمثل هدف الحياة؛ وبالتالي فإن كل موارد الحياة هي في خدمته، وتدور في إطار حياته الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة؛ إذ لا توجد عند الإمام (ع) قيمة تمايز أخرى، كالعشائرية والعنصرية والطبقية، فيقول (ع): (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه), ويقول (ع) أيضاً: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق), إنه حضور إنساني كبير في قلب استوعب الجميع فدافع عن الفقير والمظلوم والمسلم والمسيحي والأبيض والأسود.

الإمام علي دافع عن معارضيه, فأخذوا يتآمرون عليه وهم في حمايته، وهو يعلم أنهم يتآمرون عليه؛ لأنَّه (ع) لا يسبق الجناية بالعقاب، وبذلك رسم الإمام (ع) منهجاً سياسياً يحفظ ويحمي للإنسان حريته في التعبير عن رأيه والوصول إلى الحق باختياره، إذ لم تكن السياسة عنده (ع) إلا مبادئ أخلاقية وإنسانية ودينية، وليست وسيلة نفعية تبرر فيها الغاية الوسيلة، فلم يكن (ع) ليضحي بهذه المبادئ ولو كانت تؤدي إلى شهادته، لأنها الأصل الذي يهدف إلى امتداد القيم وترسخها في عمق ضمير التاريخ البشري.

كان زهده (ع) هو نزع لكل عوامل النفوذ والقوة التي تحرك في الإنسان عناصر الجشع والطمع والطغيان؛ فبهذا الزهد الخالص يصبح الحاكم منسجماً مع الحق الإنساني متصادماً مع النزوع نحو أهواء الباطل؛ فالسلطة النهمة تؤدي إلى الفساد السياسي والاستبداد المطلق والعنف الدامي, وزهده (ع) قمة الواقع التطبيقي لحاكم عادل تتمثل فيه المبادئ التي تصبح رمز قوته في بناء السعادة والعدالة الإنسانية؛ يقول(ع): (أأقنع نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خُلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها), ويقول (ع) أيضاً: (وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين).

في قراءتنا لتاريخ أمير المؤمنين (ع) بدقَّة وموضوعية وتجرُّد يمكن أن نكتشف المنهج السياسي الإنساني المنصف للجميع دون تمييز لفئة على فئة؛ فهو الذي رفض المبايعة من طريق المساومة على المبادئ، لأجل حصد الأنصار المتدافعين على المصالح السلطوية، فهو منهج إنساني يحمي المظلوم، ويدافع عن حقوق الإنسان في الأمن والحرية، ولا يمارس سياسة القوة من أجل فرض الإكراه القانوني لتحقيق الضبط السياسي في الدولة.

إذاً يمكن للإنسانية عندما يتراكم فيها ويرتفع المستوى الفكري، وتنضج عقلانيتها، أن تفهم بعد مرور آلاف السنين، وتناوب الحضارات، منهج الإمام علي (ع) في الحكم والحياة، إذ هو وجد في زمن لا يستوعبه وفي حدود تقصر العقول الضيقة عن فهمه.

ومن مظاهر الإمام الإنسان, والإنسانية عند الإمام:
1. دعا الإمام علي(عليه السلام) إلى أن ينعم الإنسان بحق المساواة العادلة في إبعاده كافة سواء البعد الإنساني، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو القضائي.

2.
في إطار حقوق الإنسان ذات البعد السياسي يبرز حق حرية الرأي والتعبير سواء في رؤية الإمام النظرية أو ممارسته العملية، مؤكداً(عليه السلام) جملة من الضمانات لهذا الحق بهدف تفعيله كونه مقصداً إلهيا شرعياً وآلية مهمة لاطلاع الحكومة على سلبياتها وأخطائها، وإنشاء وترسيخ الوعي السياسي، والتخلص من سبات العقل والركود الفكري للوقـوف بالضد من ظهور الاستبداد في الواقع السياسي الإسلامي و الإنساني على حد سواء.

3.
منح الإمام علي(عليه السلام) الإنسان حق المشاركة السياسية في شؤون وطنه واختيار حكامه وتقديم الشورى والنصيحة, وتبادل الآراء بين الحاكم والمحكوم, لإيجاد أفضل الوسائل الممكنة وصياغتها عبر قرارات تخدم الإنسان والمجتمع.

4.
امتازت رؤيته لحقوق الإنسان بإبراز حق ضمانة ضبط الحكام, وذلك لأهمية منصب الحاكم وتأثيره الواسع في المجتمع، لاسيما مع عظم المهمات الملقاة على عاتقه والمتمثلة بالواجبات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية, لذا دعا الإمام إلى ضرورة أن يشغل هذا المنصب الإنسان الذي يتميز بجملة من الصفات لعل من أبرزها معرفة الإسلام وحسن تطبيقه، والعدالة، والوعي السياسي، والصفات الشخصية الحميدة.

5.
وتعد الأسرة الركيزة الأساسية في بناء المجتمع وترسيخ قيم الإسلام وفقاً لرؤية الإمام علي (عليه السلام), لذا فقد شغلت حقوق الأسرة حيزاً مهماً في تجربته عبر تشجيع الزواج وتعزيز سبل ديمومته، وكذلك حفظ المنهج الإسلامي والأخلاقي في المجتمع عبر تعزيز الروابط الأسرية والإنسانية، وإشاعة مفاهيم التسامح والمحبة والاحترام بين أفراد الأسرة، وتعزيز هذه الأخلاقيات خلال نشرها في المجتمع الإنساني ككل.

6.
تتميز رؤية الإمام علي(عليه السلام) باهتمام كبير بالأطفال وحقوقهم، مؤكداً أن هذه المرحلة في حياة الإنسان هي الأهم في صياغة شخصيته ورسم ملامح مستقبله, لذلك كان حق حفظ حياة الطفل ورعاية كيانه المعنوي وحقه في التربية الصالحة والتنشئة الحميدة, ناهيك عن ضرورة تمتعه بحق الحرية والمساواة, وجملة من الحقوق القانونية والمادية هي أبرز ما دعا إليه الإمام ومارسه تعزيزاً منه لحقوق الطفل في المجتمع.

7.
لقد عدَّ الإمام علي(عليه السلام) نيل العلم والتعليم من أهم حقوق الإنسان التي يجب السعي الحثيث لتحقيقها عبر احترام العلم والعمل به، وتجنب العلم غير النافع، والتأكيد على حرية نيل العلم من جهة ومسؤولية كل من الحاكم والمجتمع والفرد في الاهتمام بعملية التعليم من جهة ثانية، واحترام حقوق العلماء وطلاب العلم من جهة ثالثة.

8.
العمل حق من حقوق الإنسان على وفق رؤية الإمام علي (عليه السلام) لذلك دعا إلى احترام العمال، وخلق المجتمع المنتج، والسعي الجاد لتوفير فرص العمل عبر ضبط الحياة الاقتصادية، وتعزيز دور القضاء الاقتصادي، وتنظيم العمل في المجتمع، وتشجيع العمران والتخطيط الاقتصادي، ومنع السخرة، وضرورة حصول العمال على حقوقهم بالأجور العادلة والحياة الكريمة.

9.
اتسمت رؤية الإمام علي (عليه السلام) للملكية بالايجابية، إذ عدها حقاً من حقوق الإنسان, سعى لصيانته عبر عدة آليات لعل من أهمها البعد المعنوي بتأكيده حرمة مس ملكية الآخرين، بغير وجه حق، والبعد المادي عبر تأكيد مبدأ العقوبة على من يتعدى على ملكية الآخرين وصيانة الملكية العامة خدمة للفرد والمجتمع.

10.
لقد شغل حق الضمان الاجتماعي حيزاً مهماً من تجربة الإمام علي(عليه السلام) في إرساء حقوق الإنسان, فقد بين الإمام الأساس الشرعي والإنساني والسياسي لهذا الحق إضافة لممارسته العملية له إذ شملت تجربته العملية الضمان ضد الفقر، وتحقيق الأمن الغذائي، والضمان الصحي، ورعاية المستضعفين في المجتمع من الأيتام والأرامل وكبار السن، ناهيك عن شمول الضمان الاجتماعي - على وفق الرؤية العلوية - تقديم المعونات الاقتصادية وضمان السكن والعيش الكريم للإنسان.

11.
يؤكد الإمام حق صيانة الكرامة الإنسانية وذلك بمنع تعرض الإنسان لأي نوع من الانتقاص أو الاستهانة ورفضه (عليه السلام) كل ما يمس كرامة الإنسان ويلوث سمعته, مهما كانت المبررات لذلك العمل.

12.
دعا الإمام كذلك لإشاعة السعادة, والأمل, بين أفراد ومجموع الأمة, عبر تأكيده التوبة، والاستغفار، وتبشيره لعقيدة المهدي المنتظر.

13.
يعد حق التقاضي من ابرز الحقوق التي دعا الإمام علي (عليه السلام) إلى ضرورة أن ينعم الإنسان بها، مؤكداً حتمية إيجاد القضاء العادل من خلال تحديد مواصفات مميزة للقضاة تتمثل بالعدالة والعلم وجملة من السمات الشخصية النبيلة, وكل ذلك صيانة للإنسان ورعايته في شتى شؤون الحياة .

14.
أسهم الإمام علي (عليه السلام) في ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان, عبر تأكيده أن هذه الحقوق هي تشريعات إلهية لا تمتلك قوى على الأرض أن تسلبها من الإنسان .

15.
أشاع الإمام حالة من الوعي بحقوق الإنسان, إذ على الرغم مما تعرض له الموروث الفكري للإمام (عليه السلام) من محاربة وإقصاء، إلا أن ما وصلنا يؤكد اعتماده أسلوب نشر ثقافة حقوق الإنسان سواء على الصعيد النظري، وهذا ما يدل عليه غزارة وتعدد النصوص التي تطرقت إلى شتى أنواع حقوق الإنسان، أم على الصعيد العملي للتجربة العلوية حيث جعلت من حقوق الإنسان منارة شامخة إمام بصر وبصيرة الإنسانية مجسدة في المجتمع الإسلامي آنذاك وليكون ذلك جزءاً من رسالته الحضارية للبشرية في كل زمان ومكان ولاسيما مع ما امتازت به الرؤية والتجربة العلوية لحقوق الإنسان من شمولية وواقعية وبعد إنساني مميز .
 
المصادر والمراجع
كنـز الفوائد للكراجكي ج1 ص297، شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج19 ص61، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص109.
1.
طه حسين ، الفتنة الكبرى عثمان ،(مصر: طبع دار المعارف، 1976) ، ص109 ؛ عباس محمود العقاد ، عبقرية الإمام علي، ،(مصر: طبع دار المعارف، 1981).
2.
أحمد بن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، 1980م، م2.
3.
أبو الحسن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر: مطبعة السعادة، 1964م, م2.
4.
الشيخ محمد عبدة، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب"عليه السلام"، بغداد, منشورات مكتبة النهضة، 1984م, م2.
5.
حمد عمارة وآخرون، علي بن أبي طالب، نظرة عصرية جديدة، بيروت, المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974م.
6.
ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، بيروت: مؤسسة الأعلمي، ج1، 2004م.

 

 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى