لماذا الإمام؟
العظماء كُثر في تاريخنا العربي، فلمَ اختار جرداق الإمام علياً بالذات ليكون مادّة موسوعته الغنيّة؟ ولمَ لم يختر شخصيّة أخرى، ربّما تكون أقرب لبيئته وعقيدته؟عن هذا السؤال يجيب جرداق في كتابه:
أولًا- العدالة عند الإمام:
لعل العدالة في شخص الإمام (عليه السلام) هي القضيّة الأولى التي أثارت دهشة جرداق، وجعلته منجذبًا بقوّة نحو الإمام شخصًا وتراثًا. تجلّى هذا الأمر حين سمّى موسوعته "عليّ صوت العدالة الإنسانية"، دلّ على ذلك قول جرداق: "وأما العدالة بوصفها قانونًا من قوانين الأخلاق الشخصية، ومنهجًا تلتزمه الجماعة إن شاءت أن تسعد، فتكاد أن تكون الموضوع الرئيسي لكتابنا عن ابن أبي طالب".
وقال أيضاً: "هل عرفت في مواطن العدالة، عظيمًا ما كان إلَّا على حق، ولو تألَّب عليه الخلق في أقاليم الأرض جميعًا، وما كان عدوّه إلَّا على باطل ولو ملأ السهل والجبل، لأن العدالة فيه ليست مذهبًا مكتسبًا، وإن أصبحت في نهجه مذهبًا فيما بعد، وليست خطة أوضحتها سياسة الدولة، وإن كان هذا الجانب من مفاهيمها لديه، وليست طريقًا يسلكها عن عمد فتوصله من أهل المجتمع إلى مكان الصدارة، وإن هو سلكها فأوصلته إلى قلوب الطيبين، بل لأنها في بنيانه الأخلاقي والأدبي أصل يتحد بأصول، وطبع لا يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليها، حتى لكأنّ هذه العدالة مادّة ركّب منها بنيانه الجسماني نفسه في جملة ما ركّب منه، فإذا هي دم في دمه وروح في روحه".
وفي نص بليغ آخر، قال جرداق: "ليس غريبًا أن يكون عليّ أعدل النّاس، بل الغريب ألَّا يكونه، وأخبار عليّ في عدله تراث يشرّف المكانة الإنسانيّة، والرّوح الإنسانيّة، وتجري في روحه العدالة حتى أمام أبسط الأمور، فهو إذا استوى وأخذ الناس في حق باختيار متاع من أمتعة الدنيا، آثر أن يكون هذا الاختيار من نصيب غيره، لئلَّا يشعر هذا الغير بأنّ النصيب الأوفر من الحقوق ملازم للكبير دون الصغير... ووصايا الإمام ورسائله إلى الولاة تكاد تدور حول محور واحد هو العدل، وما تواطأ الناس عليه، أباعد وأقارب، إلَّا لأنه ميزان العدالة الذي لا يميل إلى قريب، ولا يساير نافذًا، ولا يجوز فيه إلَّا الحق".
وفي نص آخر، يقول جرداق: "نضجت في ذهن الإمام القوي فكرة العدالة الاجتماعيّة على أساس من حقوق الجماعة التي لا بد لها أن تنتهي بإزالة الفروق الهائلة بين الطبقات، فكان صوته في معركة العدالة الاجتماعيّة هذه مدويًّا أبدًا، ودفاعه عن قيم الإنسان عظيمًا أبدًا، شديدًا لا هوادة فيه ولا لين، كان في حكومته المثل الأعلى للحاكم الواعي لحقوق الإنسان في تلك الحقبة من تاريخ البشر، العامل على تنفيذ منطوقها بكافة ما لديه من وسائل".
ثانيا- المساواة عند الإمام:
المساواة هي عمود العدالة الفقري، من دونها لا نستطيع إقامة نظام عادل، هذا ما وعاه أمير المؤمنين قبل مفكّري عهد النّهضة بقرون. ويرى جرداق أن الإمام كان سبّاقًا أيضاً في إدراك المساواة كضرورة اجتماعية لا يستقيم بدونها مجتمع، واستطاع أن يوسّع حدود هذه المساواة، حتّى بلغ بها آفاق الإنسانية العامة، فبحسب قوله: "أما هذه المساواة فقد رأينا أن ابن أبي طالب سبّاق إلى إدراكها كضرورة اجتماعية لا يستقيم بدونها مجتمع، ولا يشمخ له بناء، كما رأينا كيف عقل المفهوم الصحيح للمساواة وكأنه بذلك من مفكّري هذه العصور لا من أبناء القرن السابع للميلاد، عقلها في كافة الحقوق وكافة الواجبات، وجعل الناس كلهم أسوة لا فرق فيهم بين بعيد وقريب، أو عدو ونسيب، أو مسلم وغير مسلم، أو عربي وأعجمي، وبهذا يكون عليّ قد استأنس بما في الخُلق العربي من حب للمساواة، ثم وسّع حدود هذه المساواة حتى بلغ آفاق الإنسانية العامة، وأكسبها معناها الذي تريده طبيعية الإنسان وطبيعة المجتمع".
ثالثًا- الحرية عند الإمام:
الحريّة هي ذلك العالم المثاليّ الجميل، العالم الذي نقرأ طوال عمرنا عنه، دون أن نلمسه، فكلّ ما حولنا يضيّق حريّتنا بشكلٍ أو بآخر. إنّ الحريّة هي الغاية التي نلاحقها أبداً، دون الحصول عليها، هي مبدأ مثالي جداً، لم يتم تفنيده وتحديده بشكل عملي -عبر التّاريخ- إلا في حكومة عليّ بن أبي طالب، إذ لم يجد جرداق المدلول الواسع العام لمفهوم الحريّة إلَّا في نهج الإمام، وحسب قوله: "فلو استعرض المرء لفظة الحريّة في ذلك العصر لما وجد لها مدلولها الواسع العام إلَّا في نهج الإمام عليّ، فإنّ كلمة الحرية ومشتقاتها جميعًا لم يكن لها من المدلول في عصر الإمام إلَّا ما يقوم منها في معارضة الرقّ، فالحريّة ضدّ العبوديّة، والحرّ ضدّ العبد أو الرقيق، أما عند عليّ بن أبي طالب، فالأمر غير ذلك، ومفهوم الحرية أوسع وأعمّ، وهذا ما نراه واضحًا كل الوضوح في دستور عليّ في الناس، فهو يعترف للأفراد بحقّهم في الانتخاب والاعتزال، وفي القول والعمل، وفي العيش الكريم، ثم يساوي بينهم جميعًا في الحقوق والواجبات، ولا يجعل لهذه الحريّة حدودا إلَّا إذا اقتضت مصلحة الجماعة مثل هذه الحدود".
كما وجد جرداق أن الإمام عاش الحرية، وعمل في سبيلها، وبنى مسلكه عليها، وكان المثل الحي المجسد لها والمدافع عنها، فأوضح ذلك قائلًا: "هذه الحرية سوّاها عليّ ووجهها توجيهًا إنسانيًّا سليمًا، وجعلها مسؤولة، عاشها، وعمل في سبيلها، وبنى عليها مسلكه الشخصي ودستوره العام، ولا إخال القارئ يستزيدنا بحثًا في مفهوم الحرية عند عليّ بعد أن قرأ في هذا الموضوع، وفيما يدور حوله أكثر من ألف صفحة من صفحات هذا الكتاب، ونوجز ذلك كلّه، بأنّ ابن أبي طالب مثل حيّ لأجل مفاهيم الحرية، فمسلكه تجسيم للاعتراف بحريّة الناس فيما يرون ويفعلون، شرط ألَّا يسيئوا إلى الهيئة العامة، ودستوره تنظيم لهذا الاعتراف وتعميم، وإحساسه بالحريّة كقيمة إنسانيّة أساسيّة، تلقّاه وراء مسلكه ووراء دستوره، وهو بهذه الأمور جميعًا، نموذج للشخصيّة العربيّة الحرّة كما يجب أن تكون".
رابعًا- البلاغة عند الإمام:
لطالما ارتبطت البلاغة باسم أمير المؤمنين، فكم من فصيحٍ بليغ ضاعت بلاغته أمام صياغة أمير المؤمنين اللفظية والبيانيّة، هي بلاغة عجزت عن مناظرتها ألسنة العرب الفصحاء، فتربّع عليّ على عرشها بشهادة الجميع. لذلك فإننا نلمح بلاغة جرداق حين يكتب عن بلاغة الإمام، فكأنّه يصبح مرآة تعكس بيان عليّ. فنراه شغوفًا حين الاقتراب من هذا الجانب، ويكفي معرفة أن من هذا الجانب البلاغي بدأت معرفته الأولى المبكرة بالإمام، وبتأثيره الساحر توطدت هذه المعرفة وتعمّقت، فأنتجت مع مرور الوقت نصوصًا متجليّة البيان، تليق به وهو يتحدّث عن بلاغة الإمام التي مثّلت عنده المثل الأعلى في البلاغة بعد القرآن الكريم.
كتب جرداق عن ذلك قائلًا: "إن من شروط البلاغة التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعليّ بن أبي طالب، فإنشاؤه أعلى مثل لهذه البلاغة بعد القرآن، فهو موجز على وضوح، قوي جيّاش، تام الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الأذن، موسيقيّ الوقع، وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدّة، ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، ولا سيما ساعة يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاب الدّنيا على حساب الفقراء والمستضعفين، وأصحاب الحقوق المهدورة، فأسلوب عليّ صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويّته، فلا عجب أن يكون نهجًا للبلاغة! وقد بلغ أسلوب عليّ من الصدق حدًّا ترفع به حتى السّجع عن الصّنعة والتكلف، فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة، أبعد ما يكون عن الصّنعة وروحها، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر".
وكتب أيضاً عن خطابة وبلاغة الإمام: "والخطباء في العرب كثيرون، والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام، ولا سيما في عصر النبي والخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة، أما خطيب العهد النبوي الأكبر فالنبي لا خلاف في ذلك، أما في العهد الراشدي وفيما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإن أحدًا لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ بن أبي طالب في هذا النحو، فالنّطق السّهل لدى عليّ كان من عناصر شخصيّته، وكذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطّبع والصّناعة جميعًا... وإنّه لمن الصّعب أن تجد في شخصيّات التّاريخ من اجتمعت لديه كلّ هذه الشّروط التي تجعل من صاحبها خطيبًا فذًّا، غير عليّ بن أبي طالب ونفر من الخلق قليل، وما عليك إلَّا استعراض هذه الشّروط، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أن قولنا هذا صحيح لا غلو فيه".
خامسًا- عظمة الإمام:
ما من أحد من المعاصرين فاق جرداق في الحديث عن عظمة الإمام، وقد ظل يصفه مرارًا بالعظيم، وعدّه عظيم طائفة العظماء في الشرق، بل إن كتابه من أوله إلى آخره جاء لتأكيد عظمة الإمام، فها هو يقول عن ذلك: "أن في تاريخنا صفحات رائعة من الإشراق الإنساني العظيم، تشرفنا كعرب كما تضيف شرفًا إلى تاريخ الإنسان".
قبل أن يتطرق جرداق إلى جوانب من عظمة الإمام، لفت الانتباه إلى ملاحظة رأى فيها غبنًا بحق الإمام حصلت في أكثر المؤلفات التي دونت عنه وفيه -حسب قوله- ألا وهي الاستغراق في الوقوف عند شجاعته وبطولاته الحربيّة، إذ يقول: "أليس من الغبن أن يدور الحديث في أكثر المؤلفات الموضوعة عن ابن أبي طالب حول موضوعات تكاد تنحصر في واحد يدور فيه كل بحث وكل جدال، وهو إن جاوزه فللكلام على الضرب بالسيوف حتى تتقوس والطعن بالرماح حتى تتقصف، ثم عن مقاتليه تنحط عليهم الطير من السماء وتمزّقهم سباع الأرض؟ إن لهذه الأمور موضوعًا في تاريخ عليّ ولا ريب، لأن أخبارها انحسرت عن ألف قضية وقضية في التاريخ البعيد، ولكن جوانب العظمة الحقيقية في ابن أبي طالب أكثر من ذلك، وهي إن دُرست فلكي تتوضح بعض الخفايا التاريخية في حياة الرجل وحياة معاصريه، لا لكي يدور على محورها كل بحث وكل نقاش".
ومن تلميحات جرداق بعظمة الإمام، تساءله إذ يقول: "هل عرفت من الخلق عظيمًا يلتقي مع المفكرين بسمو فكرهم، ومع الخيّرين بحبهم العميق للخير، ومع العلماء بعلمهم، ومع الباحثين بتنقيبهم، ومع ذوي المودة بموداتهم، ومع الزّهاد بزهدهم، ومع المصلحين بإصلاحهم، ومع المتألمين بآلامهم، ومع المظلومين بمشاعرهم وتمردهم، ومع الأدباء بأدبهم، ومع الأبطال ببطولاتهم، ومع الشّهداء بشهادتهم، ومع كلّ إنسانية بما يشرفها ويرفع من شأنها، ثم إن له في كلّ ذلك فضل القول الناتج عن العمل، والتضحية المتصلة بالتضحية، والسابقة في الزمان".
وعلى هذا النسق من التلميح بعظمة الإمام، تساءل جرداق كذلك قائلًا: "هل عرفت عقلًا كهذا العقل، وعلمًا كهذا العلم، وبلاغة كهذه البلاغة، وشجاعة كهذه الشجاعة، تكتمل من الحنان بما لا يعرف حدودًا حتى ليبهرك هذا القدر من الحنان كما يبهرك ذلك القدر من المزايا تلتقي جميعًا وتتحد في رجل من أبناء آدم وحواء، فإذا هو العالم المفكر الأديب الإداري الحاكم القائد الذي يترك الناس والحكام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به، ليقبل عليك فيهزّ فيك مشاعر الإنسان الذي له عواطف وأفكار، فيهمس في قلبك هذه النجوى الرائعة بما فيها من حرارة العاطفة الكريمة قائلًا: فقد الأحبة غربة، أو لا تشمت بالمصائب، أو ليكن دنوك من الناس لينًا ورحمة، أو واعفُ عمَّن ظلمك، وأعطِ من حرمك، وصِلْ من قطعك، ولا تبغض من أبغضك".
وبعد أن تتبع جرداق جوانب من عظمة الإمام، يختم قائلًا: "أعرفت هذا العظيم أم لم تعرفه، فالتاريخ والحقيقة يشهدان أنه الضمير العملاق، الشهيد أبو الشهداء علي بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانية، وشخصية الشرق الخالد".
في الحقيقة، مهما تبحّرنا في موسوعة المفكّر والفيلسوف والأديب الكبير جورج جرداق عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإننا سنبقى على البرّ، فكلّ هذا الحبّ والتّبجيل الذي عبّر عنه جرداق فيما كتبه عن مولانا أمير المؤمنين يتصاغر أمامه الوصف والتبيان، فإذا أغفلنا المنظور الجديد الذي التزمه جرداق في تناوله لسيرة وعظمة عليّ بن أبي طالب، فإننا لا يمكن أن نغفل كميّة الحبّ والإجلال الذي صيغت به سطور هذه الموسوعة الضّخمة، ربّما لم يوجد في التّاريخ شخصٌ تستأهل سيرته موسوعة كهذه فيما خلا مولانا الإمام، لأنّك إذ تكتب عنه تكتب عن الفلسفة والأخلاق والعدل والمساواة والإيمان والانعتاق والقوّة والعلم وغيرها الكثير في آن معاً، قمن يا تُرى يكون جديراً بأن تتناول سيرته بالكفاية كلّ هذه المواضيع مجتمعة؟ إلا عليّ بن أبي طالب عليه السلام.