يقول أمير المؤمنين في الخلافة، وأصول إقرارها، وأصول معاملة من أنكرها، أو ادّعاها، أو تراجع عنها بعد إثباتها، وكذلك شرائط الحرب فيما بين أهل القبلة، وأخيراً تفضيل الدين على متع الحياة الدنيا:
"أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الأمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللهِ فِيهِ، فَإِنْ شَغَبَ([1]) شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ([2])، فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ([3]). وَلَعَمْرِي، لَئِنْ كَانَتِ الإمَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ([4]) حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ([5])، فمَا إِلَى ذلك سَبِيلٌ([6])، وَلكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا([7])، ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ([8])، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ([9]). أَلاَ وَإِنَّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ([10]): رَجُلاً ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ([11])، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ([12]). أُوصِيكُمْ بَتَقْوَى اللهِ، فَإنَّهـا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ، وَخَيْرُ عَوَاقِبِ الأمُورِ عِنْدَ اللهِ، وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ([13])، وَلاَ يَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ([14]) إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ، وَقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ، وَلاَ تَعْجَلُوا فِي أَمْر حَتَّى تَتَبَيَّنُوا، فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْر تُنْكِرُونَهُ غِيَراً([15]). أَلاَ وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ، لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ، وَلاَ مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ، وَلاَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَة لَكُمْ، وَلاَ تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا، وَهِيَ وَإِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا([16])، فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا، وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا، وَسَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتي دعِيتُمْ إِلَيْهَا، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا، وَلاَ يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ([17]) الأمَةِ عَلَى مَا زُوِىَ([18]) عَنْهُ مِنْهَا، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَالْـمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ([19]) مِنْ كِتَابِهِ. أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْء مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ([20])، أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْءٌ حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ([21])، أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ"
([22]).
[1] شذّ عن الجماعة، وسمي مشاغب لأنه يفعل الأفعال التي لا ترضى عنها الجماعة.
[2] عاتبناه، وبيّنا له خطأه.
[3] فإن أصرّ على شغبه، قاتلناه.
[5] حتّى يصوّت النّاس عليها، وهنا يشير مولانا أمير المؤمنين إلى أنّ الإمامة أمر إلهي، كالنبوّة وليس متروكاً لأهواء النّاس.
[7] إن من حضر البيعة، يُغني عمن غاب عنها.
[8] ومن شهدها فليس له الرّجوع بعد أن أثبت حقّ الإمامة في عنقه.
[9] وليس لمن لم يحضر البيعة أن يختار لنفسه سبيلاً غير ما اختاره المسلمون، لأن ذلك سيجعل الفرقة بين المسلمين عرضة لأهوائهم وميولهم.
[11] ادّعى أنّه إمام للمسلمين الله وهو ليس كذلك كمعاوية.
[12] وآخر بايع، ثم نكث بيعته، ولم يؤدِ حقّها، كطلحة والزّبير.
[13] أوّل الحروب بين المسلمين كانت على عهده عليه السلام.
[15] بدائل ترضونها، وهذا درس للحكام كي يتحلّوا بالمرونة في قراراتهم، وأن يتخيّروا منها ما يجمع عليه الرّعية.
[16] ففي غرور مفاتنها، تحذيرات واضحة جعلها الله سبحانه وتعالى ماثلة فيها، فلا يكاد يمضي يوم من غير أن نسمع فيه بوفاة أحد الأشخاص الذين نعرفهم. ألا يكفي ذلك من إنذار بالغ الدّلالة على زيف ما في هذه الدنيا؟
[17] البكاء الذي له خنّة في الصّدر.
[18] ما منع عنه من متع الدنيا.
[19] أحفظكم من كتاب الله في صدوركم وقلوبكم ومصاحفكم.
[20] لا يضرّكم كلّ ما فاتكم من متع الدّنيا، طالما أنّكم تقيمون دينكم.
[21] وبالعكس، لا ينفعكم شيء من متع دنياكم، إن أنتم ضيّعتم دينكم.
[22] نهج البلاغة – خطب الإمام علي – ج 2 – الصفحة 86 - 87.