الامام علي (عليه السلام) يحثّ الناس على التقوى والاستعداد للآخرة

2024.11.14 - 01:46
Facebook Share
طباعة

  قال الامام علي بن ابي طالب عليه السلام)، ببيانه الرّائع، وكلامه البديع، مصوّراً اقتراب الأجل، وحتميّة وقوع السّاعة، ووسائل الرّقابة المضروبة على أعمالنا، واستحالة الإفلات منها، وبالتالي من العقاب، ومحذراً من الغفلة، وداعياً إلى اغتنام فرصة الحياة من أجل الفوز بالآخرة:

"عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ، لاَ يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ، وَلاَ يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ. آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ، مُتَسَابِقَةٌ أُمُورُهُ([1])، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ([2]). فَكَأَنَّكُمْ بَالسَّاعَةِ([3]) تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ([4]) بِشَوْلِهِ([5])، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ([6]) تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ([7])، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّء أَعْمَالِهِ، فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ([8])، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ([9]). اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْن عَزِيز([10])، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْن ذَلِيل([11])، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ([12])، وَلاَ يُحْرِزُ([13]) مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ. أَلاَ وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ([14]) الْخَطَايَا، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصُوَى. عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الاْنْفُسِ عَلَيْكُم([15])، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ; فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ([16])، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ،فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ([17]) لأيَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ([18])، وَأُمِرْتُمْ بَالظَّعْنِ([19])، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ([20])، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْب([21]) وُقُوف، لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بَالسَّيْرِ، أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ؟ وَمَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيل يُسْلَبُهُ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ([22]) وَحِسَابُهُ! عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ([23])، وَلاَ فِيَما نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ([24]). عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الاْعْمَالُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وَتَشِيبُ فِيهِ الاْطْفَالُ. اعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً([25]) مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ([26])، وَحُفَّاظَ صِدْق يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ([27])، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْل دَاج([28])، وَلاَ يُكِنُّكُمْ([29]) مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاج([30])، وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ. يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ، وَيَجِيءُ الْغَدُ لاَ حِقاً بِهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ أمرئ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الاْرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ([31])، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ([32])، فَيَالَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَة، وَمَنْزِلِ وَحْشَة، وَمُفْرَدِ غُرْبَة! وَكَأَنَّ الصَّيْحَةَ([33]) قَدْ أَتَتْكُمْ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ([34])، وَبَرَزْتُمْ لَفَصْلِ الْقَضَاءِ([35])، قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الاْبَاطِيلُ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ، وَاسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ، وَصَدَرَتْ بِكُمُ الاْمُورُ مَصَادِرَهَا([36])، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، وَاعْتَبِرُوا بَالْغِيَرِ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ"([37]).


[1] تتسابق مصائبه.
[2] راياته مرفوعة وكلها متحالفة على الإنسان.
[3] الموت أو قيام الساعة.
[4] سائق الإبل.
[5] إبله المتوالدة حديثاً.
[6] كل شغل بما هو للدنيا هو شغل عن النفس، وكل شغل بما هو للآخرة هو اشتغال بالنفس، أي لا تنشغلوا بغير أنفسكم، واعملوا لها.
[7] حين الموت.
[8] آخر الطريق، أو نهاية الخط.
[9] الذين ضيّعوا فرصتهم فآخر الطريق بالنسبة لهم النّار.
[10] حصن منيع.
[11] حصن ضعيف مكشوف.
[12] لا يحمي الناس اللائذين به.
[13] يحمي ويمنع.
[14] الحمّة: ابرة العقرب، أي أنّ التقوى تبقيك سالماً من سموم الخطايا.
[15] لا يوجد أعزّ من نفس الإنسان عليه، فاعمل لها وأنقذها.
[16] شقاء ملازم طوال الوقت.
[17] أيّام الدنيا.
[18] نحن نعرف الزّاد القابل للانتقال معنا إلى الآخرة.
[19] ومأمورون بالرّحيل، فلا أحد مخلّد في الدّنيا، والكل يعرف أنّه راحل عاجلاً أم آجلاً.
[20] أنذرنا الله مراراً، أنّ الرّحيل عن الدنيا أقرب للإنسان مما يتصور.
[21] قافلة سفر في استراحة، وستعاودون المسير عاجلاً.
[22] عواقبه.
[23] لا شيء منفر فيما افترضه الله علينا.
[24] وكل الشرور التي نهانا عنها سيئة ولا يرغب العاقل بها.
[25] رصداً، أي ترصدكم، فلا تستطيعون الإفلات منها، وهذا من مصاديق قوله تعالى: "كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا". أي ستحاكمك نفسك، وستسأل، وستجيب هي بالحق فيما إذا كنت مذنباً أم لا، وحينها لا تستطيع الهروب مما حكمت به نفسك عليك.
[26] كل خليّة من خلايانا تكون شاهداً علينا، كما أخبرنا القرآن الكريم: "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون".
[27] الملائكة الكرام الكاتبين.
[28] لا تستطيعون الإفلات من رقابتهم في ظلمة.
[29] يحجبكم.
[30] قفل.
[31] وصل إلى مكان موته.
[32] حفرة قبره.
[33] نفخة الصور، قال الله تعالى: "يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج"، أي يوم خروج النّاس من قبورها.
[34] لبستكم، أو حلّت بكم.
[35] وكأننا نقف الآن للحساب بين يدي الله، وهو يوم واقع لا محالة بالنسبة لأمير المؤمنين، ولا يشكك به إلا الكافرون.
[36] وقد تمّ فرزكم بحسب أموركم وأعمالكم، فكل زمرة تتبع إمامها، إما إلى الجنّة، وإمّا إلى النّار.
[37] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ - الصفحة ٥١.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى