إنّ ما حدث تلك الليلة أمرٌ رهيب، فالأمين محمّد طريح الفراش، مرتعشٌ، جبينه يتفصّد[1]عرقاً، ومع ذلك يطلب الدّثار، وينادي "دثّروني، دثّروني". حارت به خديجة، وأُسقط في يدها، إنّه يقول كلاماً عجباً، "اقرأ باسم ربّك الذي خلق[2]"، "ويا أيّها المدّثر قم فأنذر[3]". كلام له وقع السّحر على النّفس، لا يشبه الشّعر، فما كان محمّد الأمين شاعراً وما ينبغي له، فالشعراء في الجاهليّة لهم شخصيّة مختلفة عن شخصيّة محمّد الرّزينة الضّاربة الجذور في السّكينة والحكمة. كلام حفظه عليّ مباشرة وظلّ يردده طوال الوقت في البيت وفي محضر محمّد الأمين. كلام لا يملّ السّامع من ترداده كأنّه مربوط على نبض القلوب، سرداب كوني يرفعك إلى عالمٍ من الكمال لم تشهده من قبل.
نادت خديجة على عليّ، وقالت: "إي عليّ، قم إلى ابن عمّي ورقة واطلب إليه أن يحضر بالعَجَل". طار عليّ إلى بيت ورقة بن نوفل، وقلبه يكاد يتقطّع على ما أصاب ابن عمّه، غير أنّ ترداد الكلام السّحري ما كان ليتوقف في قلبه وعقله، حتّى أنّ ورقة سأله في الطّريق: "ما هذا الذي تردده يا علي؟"، فأجاب الطّفل: "إنّه كلام ردده حبيبي محمّد حين اعتراه ما اعتراه". قطّب ورقة حاجبيه استغراباً، إنّما لم يعقّب أبداً.
سمع ورقة بن نوفل من خديجة ما حدث مع محمّد الأمين، وكيف جاءه الرّوح الأمين جبريل وأقرأه مالم يكن يعلم، وأخبره أنّه رسول الله إلى النّاس كافّة. اغرورقت عينا ورقة بالدّموع، واختلج فؤاده ثمّ التفت إلى محمّد الأمين الذي هدأ ونام في فراشه بعد طول عناء، وقال: "اسمعي يا ابنة العمّ". شدّ كلام ورقة انتباه عليّ الذي ما زال يتغنّى بالكلام منذ البارحة.
"يا خديجة إنّ زوجك رسول من الله للبشر، لعمري إنّ هذا الذي هبط عليه لهو النّاموس الذي نزل على موسى، وهو الروح القدس الذي أيّد المسيح".
استفاق النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وقد علم أنّ مسؤوليّته تجاه البشريّة قد ابتدأت منذ البارحة، فلا يجوز له النّوم أكثر، فنادى على خديجة، وكان عليّ ملازماً بجانبه كالعادة، وأخبرها بأنّه مقدم على حياةٍ جديدة ومسؤوليّات جسام، وأنّها في حلٍّ من متابعة حياتها معه إذا شاءت، فقاطعته وقد اغرورقت عيناها بالدّموع: "يا حبيبي وسيّدي وقرّة عيني، ما كنت لأتركك في الجاهليّة، أتتركك الآن وقد اختارك الله لرسالته؟".
آمنت خديجة على الفور، ونطقت بشهادة الوحدانيّة لله، وأنّ زوجها محمداً رسول الله. هنا سأل عليّ النّبي صلى الله عليه وسلّم: "يا رسول الله؟ لقد آمنت بك منذ حكيت لخديجة البارحة عمّا حصل معك، وأنا أوّل من سمع وحيك، فهل يقبل الله ذلك منّي"، ابتسم الرّسول في وجه عليّ وقال: "وكيف لا يا عليّ؟ أنت أخي وابن عمّي وأوّل من أسلم".
انتشر الخبر في مكّة، محمّد بن عبد الله رسول يكلّمه الله، منهم من جاء إلى الرّسول مستفسراً وآمن على يديه كصديقه وخليله أبي بكر، وجعفر ابن أبي طالب، وزيد بن حارثة، ومنهم من استفسر وتحفّظ كعمّه العباس وعمّه الحمزة، ومنهم من سخر منه كأبي لهب وأبو جهل وجماعة من سادة قريش، الذين لم يعجبهم تفضيل الإله لمحمّد بن عبد الله عليهم وهم سادة البطحاء. فهم مغتّرون بجاههم وعزوتهم لدرجة أنّهم ظنّوا أن الإله ممكن يُشرى بالمال! لكنّما الموقف الغريب كان من أبي طالب، ففي حين سارعت زوجته فاطمة بنت أسد إلى إشهار إسلامها دون أيّ معارضة منه، تحفّظ هو، وقال لابن أخيه: "تعلم يا ابن أخي أنّك قرّة عيني، وأنّك أغلى عليّ من ولديّ هذين جعفر وعلي، وأنني لن أتوانى عن حمايتك بنفسي وولدي ومالي، وأنت وصيّة أبي عبد المطّلب، لكنني أخشى عليك يا ولدي من هذا الأمر، فجاهليّة القوم أعتى من رقّة دعوتك، فهلا تريّثت في نشر أخبارك حتّى نضمن موافقتهم، ونأمن جانبهم؟". أجاب النّبيّ صلى الله عليه وسلّم بحزم وإصرار: "بل أمضي فيما أُمرت به على بركة الله، ولا آبه لهم، أمّا أنت يا عمّ، فدرعي وردائي، وعزوتي ونصيري، ولكنني لا أكلّفك من أمري ما لا تُطيق، فافعل ما تحب وأنا راضٍ". كان عليّ يستمع إلى رسول الله مبتسماً، وما أن انتهى حتّى أمسك بيدّه قبّلها وشدّ عليها. كانت نفسه التي لا تشبه الأطفال في شيء تقول: "أنا معك يا رسول الله أفديك بنفسي، فامض على بركة الله في أمرك ولا تخش النّاس".