للسيف مكانة لا تُدانى عند العرب، فلطالما تغنّى الأقدمون بسيوفهم وجعلوها عناوين للشرف والقوّة والبأس، والذود عن القبيلة، وللسيف أسماء وصفات عديدة، كالحسام، والمهنّد، والعضب، والصمصام، والأبيض، والمرهف، إلا أنّ أشهر سيوف العرب على الإطلاق، بل أشهر السّيوف في التاريخ، هو سيف يسمّى "ذو الفقار"، الذي أصبح اسماً يتبرّك به النّاس في جميع أصقاع الأرض.
سبب التسميّة: من الشّائع أنّ سيف ذو الفقار كان له شعبتان (كما يصوّر في الغالب)، غير أنّ السيف المفقّر يعني أنّ فيه حزوز على متنه، قال ابن منظور في لسان العرب: وذو الفقار بالفتح والكسر وهو سيف مفقر، إذا كان فيه حز أُثّر فيه فقد فُقَّر. وقال أبو العباس: سمي سيف النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ذا الفقار لأنه كانت فيه حفر صغار حسان وقد سئل الإمام الصادق _ لِمَ سمي ذو الفقار؟ فقال _: (سمي ذو الفقار لأنه ما ضرب به أمير المؤمنين أحداً إلا افتقر في الدنيا من الحياة وفي الآخرة من الجنة).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (سمي سيف أمير المؤمنين ذا الفقار لأنّه كان في وسطه خط في طوله فشبه بفقار الظهر، إلى أن قال وكانت حلقته فضة). وجاء في بحار الأنوار (وكان ذو الفقار ذا شعبتين). وفي رواية عبد الله بن عباس قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم سيف مُحلّى، قائمه من فضة، ونعله من فضة، وفيه حلق من فضة، وكان يسمى ذو الفقار، وكانت له قوس نبع تسمى السداد، وكانت له كنانة تسمى جمع، وكانت له درع وشجة بالنحاس يسمى ذات الفضول، وكانت له حربة تسمى البيضاء، وكانت له مجن يسمى الوافر، وكان له فرس أدهم يسمى السكب، وكانت له بغلة شهباء تسمى دلدل، وكانت له ناقة تسمى العضباء وكان له حمار يعفور، وكان له فسطاط يسمى التركي، وكان له عنز يسمى اليمن وكانت له ركوة تسمى الصادر، وكانت له مرآة تسمى المدلة، وكان له مقراض يُسمى الجامع، وكانَ له قضيب شوحط يسمى الممشوق). وكان من عادة الفرسان أن تكتب على سيوفها، فقد وجد مكتوباً على ذؤابة سيف ذي الفقار: (إن أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه وقتل غير قاتله).
وقد ورد في الأثر عن الإمام الصادق (عليه السلام): إن الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم أحد، فغضب الرسول غضباً شديداً وكان إذا غضب انحدر عن جبينه مثل اللؤلؤ من العرق، فنظر فإذا عليّ إلى جنبه، فقال: الحق ببني أبيك مع من انهزم، فقال علي: يا رسول الله لي بك اسوة، فقال الرسول صلى الله عليه واله وسلم: فاكفني هؤلاء وكان علي قد انكسر سيفه، فقال يا رسول الله: إن الرجل يقاتل بالسلاح وقد انقطع سيفي، فدفع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم سيفه ذا الفقار إلى الإمام علي فقال: قاتل بهذا، ولم يكن يحمل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أحد إلا استقبله أمير المؤمنين فإذا رأوه رجعوا، فانحاز رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى ناحية أحد فوقف وكان القتال من وجه واحد، فلم يزل أمير المؤمنين يقاتل الكفّار حتى أصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة، فتحاموه وسمعوا مناديا من السماء: فنزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال: يا محمد هذه والله المواساة.
وفي رواية ابن مسعود أن ملائكة السماء تعجبت من ثبات الإمام علي أمير المؤمنين في معركة أحد، وسُمع جبرائيل حين يعرج إلى السماء يقول: لا سيف إلا ذو الفقار لا فتى إلا علي
وروي عن عكرمة عن علي (عليه السلام)، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: إن ملكا اسمه رضوان كان ينادي في السماء بذلك([1]).
يقول شاعر الرّسول حسان بن ثابت مخلّداً هذه الواقعة:
جبريل نادى معلنًا والنقع ليس بمنجلي
والمسلمون قد أحدقوا حول النبي المرسل
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتــى إلا علي
ولقد أفاض المؤرخون والشّعراء في وصف تلك الواقعة في عليّ وسيف سيف عليّ، فقال أحد الشّعراء:
ومـرّ أمـين الله فـي الـجوّ قائلاً وقـد أظـهر الـتسبيح وهـو مكبّر
لا سـيـف إلاّ ذو الـفقار ولا فـتى لـمـعركة إلاّ عـلـي الـغـضنفر
وقال آخر: "إذا اعتلى فيه قد([2])، وإذا اعترض فيه قط([3])".
على أنّ اهميّة السيف في يد عليّ عليه السلام لا تكمن فقط في المعنى الحربي، بل للسيف معنىً فلسفي، إذ إنّه لم يكن سيفاً لنصرة فئة تقاتل لأجل السّلطة، بل كان بيد الإمام كما لو أنّه الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل. هو سيف لم ينصر ظالماً قط، ولم يُستقوَ به على النّاس قط، ولم يُسلط يوماً لأجل سلطة، أو لأجل مُلك، أو عصبيّة قبليّة أو جاهليّة، إنّه لم يقم في يد صاحبه إلا لأجل إصلاح الإنسان ونصرة الحقّ وأهله. هو سيف لا هدف حربياً له يعلو على هدفه الأسمى، ألا وهو إعلاء كلمة الحق ومناهضة الكفر والباطل.
ورغم انقضاء السنون، لازال اسم "ذو الفقار"يثير الرّهبة في نفوس أهل الباطل، إنّه كأسطورة لا تنسى مسلط على رقاب الفاسدين وأهل المعاصي، إنّه بمثابة لواء يسير خلفه أنصار الحقّ، إذ لم يصدف في التاريخ أن كان سيف ذو الفقار شعاراً لسلطة أو بهرجة، إنّما هو شعار يجتمع عليه المناضلون من كلّ أصقاع الأرض، من كل الممل، من كلّ الطوائف والنّحل، عسى أن يتم لهم يوماً رؤية إمامٍ كعليّ بن أبي طالب يسيرون خلفه إلى النّصر.
[1] الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص197، الهيثمي، مجمع الزوائد: ج6، ص114، الهندي، كنز العمال: ج15، ص126، ابن كثير، البداية والنهاية: ج6، ص5، ابن هشام، السيرة النبوية: ج2، ص106، المعتزلي، شرح نهج البلاغة: ج14، ص250
.