خطبة رقم (112) للامام علي عليه السلام : في ذم الدنيا

2024.10.30 - 02:48
Facebook Share
طباعة

  قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام):

"وَأُحَذّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَة([1])، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة([2])، قَدْ تَزَيَّنَتْ بَغُرُورِهَا([3])، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا([4])، دَارُهَا هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا([5])، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا([6])، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا، لَمْ يُصْفِهَا اللهُ لأوْلِيَائِهِ([7])، وَلَمْ يَضِنَّ([8]) بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ، خَيْرُهَا زَهِيدٌ([9])، وَشَرُّهَا عَتِيدٌ([10])، وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ([11])، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ([12])، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ([13]). فَمَا خَيْرُ دَار تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءَ([14])، وَعُمُر يَفْنَى فَنَاءَ الزَّادِ([15])، وَمُدَّة تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ([16]) فاجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلِبَتِكُمْ([17])، وَاسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سألكم([18])، وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم([19]إِنَّ الزَّاهِدِينَ في الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا([20]) بِمَا رُزِقُوا. قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الآجَالِ([21])، وَحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الآمَالِ([22])، فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الاْخِرَةِ([23])، وَالْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الاْجِلَةِ([24])، وَاِنَّمَا أَنْتُم إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللهِ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرَ([25])، وَسُوءُ الضَّمائِرِ([26])، فَلاَ تَوَازَرُونَ([27])، وَلاَ تَنَاصَحُونَ([28])، وَلاَ تَبَاذَلُونَ([29])، وَلاَ تَوَادُّونَ([30]). مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرَ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ([31])، وَلاَ يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الاخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ([32]) وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ([33])، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ، وَقَلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ([34]) مِنْهَا عَنْكُمْ! كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ([35])، وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاق عَلَيْكُمْ. وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ([36])، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ، قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الاْجِلِ([37]) وَحُبِّ الْعَاجِلِ([38])، وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً([39]) عَلَى لِسَانِهِ، صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ([40])، وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ([41])"([42]).


[1] أي أنكم غير مرحّب بكم فيها. ومنها تقليع الضّيف.
[2] ليست مضافة، أو منتجعا للاسترخاء.
[3] الدنيا كالمرأة، لكن زينتها الغرور والخداع.
[4] حتّى الدنيا نفسها صدّقت نفسها واغترّت بزينها، مع أنّها مخادعة.
[5] الدنيا ليست ذات قيمة واعتبار عند ربّها.
[6] الحرام والحلال فيها مخلوطان بشكل شديد، فلا يميّزهما إلا المؤمن الحقّ.
[7] لا تكون الحياة صافية جميلة لأولياء الله، وإنّما تكون امتحاناً متواصلاً لهم.
[8] يبخل.
[9] خيرها مهما كان كثيراً فهو قليل أمام كرم الله.
[10] حاضر وقوي.
[11] كل جمعٍ فيها يتبدد ويضمحل.
[12] الأملاك فيها متداولة تُسلب من أصحابها باستمرار بوسائل شتّى.
[13] كل العمائر فيها تبلى وتتهدم.
[14] فأي خير في دنيا عمائرها -مهما كانت عظيمة- تبلى وتخرب.
[15] ولا خير في عمرٍ ينقص كما ينقص الطّعام في زاد المسافر.
[16] ولا خير في مدّة وأجل ينقص كما تنقص المسافة بين مكانين عندما تبدأ بالانتقال بينهما.
[17] اجعلوا دعاءكم من الله متضمناً أن يعينكم على ما طلبه منكم من أعمال صالحات، أي لا يكن طلبكم لأغراض الدنيا فقط، بل اطلبوا للآخرة أيضاً.
[18] واسألوه أن يؤدي عنكم ما طلبه منكم إذا قصرّتم.
[19] ولتكن مناداة اسمكم على جدول الموت حاضرة في أسماعكم طوال الوقت، فإنّكم لا بد سامعوها يوماً ما، فكونوا متحضرين إذاً، ذلك خير لكم من أن تأتيكم الدّعوة دون تحضير مسبق لها.
[20] حتّى وإن فرحوا بعطاء الدّنيا، تكون قلوبهم غير مرتاحة، ليقينهم أن هذا مجرّد امتحان.
[21] ما عدتم تذكرون الأجل، وأنّ وجودكم مؤقت بالموت.
[22] ويعيش أحدكم في الدنيا على الأمل بطول عمره، أو خلوده فيها، وأنّ هناك وقت دائماً للتوبة والتوقّف من فعل المنكرات.
[23] صارت الدنيا تملككم أكثر من الآخرة، مع الأمر يجب أن يكون معكوساً.
[24] وتضيعكم الدنيا بعجلتها، أكثر مما تحفظكم الآخرة بخلودها.
[25] السريرة الخبيثة، والنيّة السيئة.
[26] النيّات الشريرة المبيتة لبعضكم البعض.
[27] لا تؤازرون ولا تساعدون بعضكم بعضاً.
[28] تنصحون لبعض، النصيحة الطيبة.
[29] ولا تبذلون لبعضكم البعض لمساعدة من هو بحاجة.
[30] ولا تحبّون بعضكم بعضاً أساساً.
[31] كيف تهنئون بقليل الدنيا؟
[32] ولا تحزنون على كثير الآخرة الذي تفوتونه عليكم.
[33] بينما يحزنكم ما يفوتكم من قليل الدنيا.
[34] وصبركم قليل عما أبعد الله عنكم من خيرات الدنيا.
[35] وكأنها دار خلودكم.
[36] أصبحتم لكثرة عيوبكم، لا تجرؤون على مواجهة أخيكم بعيوبه، لأنه بالمقابل سيعيب عليكم مثلما تعيبون عليه، وربّما أكثر.
[37] اتفقت قلوبكم على عدم التفكير بالموت.
[38] وانتهاز ما وقعت عليه أيديكم من العاجل غير الدائم.
[39] مجرّد كلام في كلام، وترديد أقوال فارغة من المضمون.
[40] وكأنّكم أنهيتم أعمالكم بالفعل.
[41] وكأنّكم حزتم رضا مولاكم عمّا صنعتموه في الدنيا.
[42] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٧ - الصفحة ٢٤٦.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى