دعاء كُميل لأمير المؤمنين (عليه السلام) دراسة منهجيّة وشرح

2021.05.19 - 08:23
Facebook Share
طباعة

دعاء كميل، من أشهر الأدعية المأثورة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأكثرها شيوعاً، وله العديد من الشروحات، كما أنّه مترجمٌ للعديد من اللغات العالميّة. يُعتبر هذا الدّعاء أفضل الأدعية ([1]).
- سند الدّعاء:
يعتبر دعاء كُميل من الأدعية المتواترة، فقد رواه العديد من العلماء، الكفعمي([2])، وابن طاووس([3])، ومحمد بن الحسن الطوسي([4])، وهو من مستحبّات الأعمال لليلة الجمعة، وليلة النّصف من شعبان([5]).
- كُميل بن زياد النّخعي، من خواص أصحاب([6]) أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأصحاب سرّه. كان عامله على (هيت)، وكان من أصحاب الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام).سكن الكوفة، وقتله الحجّاج سنة 83 هـ مع من قتل من أكابر العلماء([7])، وحفظة القرآن الكريم. قال عنه الذّهبي صاحب (ميزان الاعتدال): "حدّث عن عليّ (عليه السلام) وغيره، شهد صفّين مع عليّ (عليه السلام)، وكان شريفاً مطاعاً ثقة عابداً". تقع مقبرة "كميل" اليوم في حي الحنّانة من أحياء مدينة النجف الأشرف.
- فوائد قراءة الدّعاء: من المعروف أنّ قراءة دعاء كميل تجدي في إجابة الدعاء، وكفاية شرّ الأعداء، وفتح باب الرزق، وغفران الذنوب.عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال لكميل بن زياد: "إن حفظت هذا الدعاء، فادع به كلّ ليل جمعة، أو في الشهر مرّة، أو في السنة مرّة، أو في عمرك مرّة، تكف، وتُرزق، وتُنصر، ولن تعدم المغفرة([8])".
- يتضمّن دعاء كميل تعاليم وآداب توحيدية وعرفانية وأخلاقية، أهمّها:
·        تعلّم العبد آداب التّحدّث مع الله، والخضوع بين يدي الله تعالى، وسؤاله والإلحاح والقسم عليه بالرحمة، والقوة، والجبروت، والعزة، والعظمة، والسلطان، والأسماء، والعلم، والنور الإلهي. ومن التقديس والالتماس بين يديه تعالى: "يا نُورُ يا قُدُّوسُ يا أَوَّلَ الْأَوَّلِينَ وَيا آخِرَ الْآخِرِينَ"
·        طلب الغفران للآثام والأخطاء التي يرتكبها الإنسان: "اغفر لي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ... الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ... الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ... الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ... الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ" "اَللّهُمَّ اغْفِرْ لي كُلَّ ذَنْب اَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ خَطيئَة اَخْطَأتُها".
·        يتقرب الداعي إلى الله تعالى ويتشفع إليه بسؤال الخاضع الذّليل، ويستلهم من ذلك كلّه ما يجعله يُظهر شوقه للحقّ تعالى: "اَللّهُمَّ اِنّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ خاضِع مُتَذَلِّل خاشِع اَنْ تُسامِحَني وَتَرْحَمَني وَتَجْعَلَني بِقِسْمِكَ راضِيَا قانِعاً وَفي جَميعِ الأحْوالِ مُتَواضِعاً، اَللّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ سُؤالَ مَنِ اشْتَدَّتْ فاقَتُهُ، وَاَنْزَلَ بِكَ عِنْدَ الشَّدائِدِ حاجَتَهُ، وَعَظُمَ فيما عِنْدَكَ رَغْبَتُهُ".
·        يبسط الداعي بين يديه عظمة سلطان الله تعالى وقاهريته، ويعترف له بالخطأ والظلم لنفسه: "لا اِلـهَ إلاّ اَنْتَ سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ ظَلَمْتُ نَفْسي، وَتَجَرَّأْتُ بِجَهْلي وَسَكَنْتُ اِلى قَديمِ ذِكْرِكَ لي وَمَنِّكَ عَلَيَّ".
·        يستعرض الداعي في فقرات أخرى ستر الله، ودفعه البلاء، والحفظ من العثرات مع عدم استحقاق العبد لهذا كله، فيقدمها كالشكوى بين يديه تعالى مستعطفاً: "َاللّهُمَّ مَوْلاي كَمْ مِنْ قَبيح سَتَرْتَهُ وَكَمْ مِنْ فادِح مِنَ الْبَلاءِ اَقَلْتَهُ وَكَمْ مِنْ عِثار وَقَيْتَهُ، وَكَمْ مِنْ مَكْرُوه دَفَعْتَهُ، وَكَمْ مِنْ ثَناء جَميل لَسْتُ اَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ"، فيطلب العفو عنها والستر من الفضيحة بسببها: "وَلا تَفْضَحْني بِخَفِي مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ سِرّى، وَلا تُعاجِلْني بِالْعُقُوبَةِ عَلى ما عَمِلْتُهُ في خَلَواتي مِنْ سُوءِ فِعْلي وَإساءَتي وَدَوامِ تَفْريطي وَجَهالَتي وَكَثْرَةِ شَهَواتي وَغَفْلَتي".
·        إقرار العبد واعترافه واعتذاره وندمه عن تقصيره وإسرافه على نفسه: "وَقَدْ اَتَيْتُكَ يَا اِلـهي بَعْدَ تَقْصيري وَاِسْرافي عَلى نَفْسي مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاً لا اَجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي وَلا مَفْزَعاً اَتَوَجَّهُ اِلَيْهِ في اَمْري غَيْرَ قَبُولِكَ عُذْري وَاِدْخالِكَ اِيَايَ في سَعَة رَحْمَتِكَ". "يَا اِلهي وَرَبّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ لاَِيِّ الاُْمُورِ اِلَيْكَ اَشْكُو وَلِما مِنْها اَضِجُّ وَاَبْكي"
·        التّوسل إليه تعالى بأحسن الخطاب، والتّضرّع بطلب الإجابة: "أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ وَقُدْسِكَ وَاَعْظَمِ صِفاتِكَ وَاَسْمائِكَ.... فَإلَيْكَ يَا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهي وَإلَيْكَ يَا رَبِّ مَدَدْتُ يَدي، فَبِعِزَّتِكَ اسْتَجِبْ لي دُعائي وَبَلِّغْني مُنايَ وَلا تَقْطَعْ مِنْ فَضْلِكَ رَجائي"
·        يختم الدعاء بالصلاة على النبي ويسلم لله تعالى أن يفعل به ما هو أهله من المعرفة بمصالح عبده: "يَا عالِماً لا يُعَلَّمُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَافْعَلْ بي ما اَنْتَ اَهْلُهُ وَصَلَّى اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَالأئِمَّةِ الْمَيَامينَ مِنْ آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْليماً كَثيراً".
·        عرض خارطة طريق للسلوك، ما يزوّد الداعي طاقة حية من العزم، والهمة، والفتوة، وإلزام النفس باستثمار الحياة والعمل الصالح، ومنعها عن الكسل.
 
- بلاغة الدّعاء وفصاحة ألفاظه وتراكيبه: يعتبر الدّعاء من أبدع المأثورات الدينيّة في تعظيم وتقديس ذات الله، ومناجاة العليّ القدير، يقول الدكتور: "بأنّ ثمة عدد لا يحصى من الآثار الأدبيّة والبلاغيّة قد وصلت إلى العصر المعاصر بمختلف الطّرق، ومن هذه الآثار يمكن الإشارة إلى دعاء كُميل للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الذي يختزن كنزاً أدبيّاً وبلاغيّاً طريفاً، وفي حقيقة الأمر أنّه لا يزال يلفت الأنظار للعديد من الأدباء والباحثين، لأنّه ينطوي على أسلوب طريف وأخّاذ تركّز عليه هذه الدّراسة، من جماليّة الأسلوب البلاغي لأمير المؤمنين عليه السلام، والصراحة والوضوح في المعاني مع التّكرار المستمر الهادف إلى تقرير الكلام مع تأثيره في أسماع القارئين، إنّ هذا الأسلوب يجمع بين دفّتيه كافّة أنواع ضروب التّعبير البلاغي، التي وظّفها الإمام دون تكلّف في خدمة المعنى، بل وردت هكذا عفو الخاطر، دون إخلال بالموسيقى والرنين الذي يؤثّر على أذن القارئ([9])".
- نصّ الّدعاء:
"اللّـهمَّ إنّي أَسأَلك برحمتك الَّتي وسعت كلَّ شيء، وبقوَّتك الَّتي قهرت بها كلَّ شيء، وخضع لها كلُّ شيء، وذلَّ لها كلُّ شيء، وبجبروتك الَّتي غلبت بها كلَّ شيء، وبعزَّتك الَّتي لا يقوم لها شيء، وبعظمتك الَّتي ملأت كلَّ شيء، وبسلطانك الَّذي علا كلَّ شيء، وبوجهك الباقي بعد فناء كلِّ شيء، وبأَسمائِك الَّتي ملأت أركان كلِّ شيء، وبعلمك الَّذي أحاط بكلِّ شيء، وبنور وجهك الَّذي أضاء له كلُّ شيء، يا نور يا قدُّوس، يا أوَّل الاْوَّلين ويا آخر الآخرين.
اللّهمَّ اغفر لي الذُّنوب الَّتي تهتك العصم([10])، اللّـهمَّ اغفـر لي الذُّنوب الَّتي تنزل النِّقم([11])، اللّهمَّ اغفر لي الذُّنوب الَّتي تغيِّـر النِّعم([12])، اللّـهمَّ اغفر لي الذُّنوب الَّتي تحبس الدُّعاء([13])، اللّـهمَّ اغفر لي الذُّنوب الَّتي تنزل البلاء، اللّهمَّ اغفر لي كلَّ ذنب أذنبته، وكلَّ خطيئَة أخطأتها، اللّهمَّ انّي اتقرَّب اليك بذكرك([14])، واستشفع بك إلى نفسك([15])، وأَسأَلك بجودك أن تدنيني من قربك([16])، وأن توزعني شكرك([17])، وأن تلهمني ذكرك.
اللّهمَّ إنّي أَسأَلك سؤال خاضع متذلِّل خاشع، أن تسامحني وترحمني، وتجعلني بقسمك راضيا قانعا، وفي جميع الاْحوال متواضعا، اللّهمَّ وأَسأَلك سؤال من اشتدَّت فاقته([18])، وأنزل بك عند الشَّدائِد حاجته، وعظم فيما عندك رغبته، اللّـهمَّ عظم سلطانك وعلا مكانك وخفي مكرك([19])، وظهر أمرك([20])، وغلب قهرك([21])، وجرت قدرتك، ولا يمكن الفرار من حكومتك، اللّهمَّ لا أجد لذنوبي غافرا، ولا لقبائِحي ساترا، ولا لشيء من عملي القبيح بالحسن مبدِّلا غيرك، لا الـه إلاّ انت سبحانك وبحمدك ظلمت نفسي، وتجرَّأْت بجهلي([22])، وسكنت إلى قديم ذكرك لي ومنِّك عليَّ([23]).
اللّهمَّ مولاي كم من قبيح سترته، وكم من فادح من البلاء أقلته([24])، وكم من عثار وقيته([25])، وكم من مكروه دفعته، وكم من ثناء جميل لست أهلا له نشرته، اللّهمَّ عظم بلائي، وأفرط بي سوء حالي، وقصرت بي أعمالي، وقعدت بي أغلالي، وحبسني عن نفعي بُعد أملي([26])، وخدعتني الدُّنيا بغرورها، ونفسي بجنايتها([27])، ومطالي([28]) يا سيِّدي، فأَسأَلك بعزَّتك، أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي، ولا تفضحني بخَفيّ ما اطَّلعت عليه من سرّي، ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي، من سوء فعلي وإساءتي، ودوام تفريطي وجهالتي، وكثرة شهواتي وغفلتي.
وكن اللّهمَّ بعزَّتك لي في كلِّ الاْحوال رؤوفا، وعلي في جميع الاْمور عطوفا، إلـهي وربّي من لي غيرك أَسأَله كشف ضرّي والنَّظر في امري، إلهي ومولاي أجريت علي حكما اتَّبعت فيه هوى نفسي([29])، ولم أحترس فيه من تزيين عدوّي([30])، فغرَّني بما أهوى([31])، وأسعده على ذلك القضاء([32])، فتجاوزت بما جرى علي من ذلك بعض حدودك([33])، وخالفت بعض أوامرك، فلك الحمد عليّ في جميع ذلك، ولا حجَّة لي فيما جرى عليَّ فيه قضاؤُك([34])، وألزمني حكمك وبلاؤُك([35])، وقد أتيتك يا إلـهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي، معتذرا نادما، منكسرا مستقيلا([36])، مستغفرا منيبا، مقرّا مذعنا معترفا، لا أجد مفرّا ممّا كان منّي، ولا مفزعا([37]) أتوجَّه إليه في أمري، غير قبولك عذري، وإدخالك ايّاي في سعة من رحمتك.
اللّـهمَّ فاقبل عذري، وارحم شدَّة ضرّي، وفكَّني من شدِّ وثاقي، يا ربِّ ارحم ضعف بدني، ورقَّة جلدي، ودقَّة عظمي، يا من بدأَ خلقي وذكري، وتربيتي وبرّى وتغذيتي، هبني لابـتداء كرمك([38])، وسالف برِّك بي، يا إلـهي وسيِّدي وربّي، أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك؟ وبعد ما انطوى عليه قلبي من معرفتك؟ ولهج به لساني من ذكرك؟ واعتقده ضميري من حبِّك؟ وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعا لربوبيَّتك؟ هيهات، أنت أكرم من أن تضيِّع من ربَّيته، أو تبعد من أدنيته، أو تشرِّد من آويته، أو تسلِّم الى البلاء من كفيته ورحمته، وليت شعري([39]) يا سيِّدي والـهي ومولاي، اتسلِّط النّار على وجوه خرَّت لعظمتك ساجدة؟ وعلى ألسنٍ نطقت بتوحيدك صادقة؟ وبشكرك مادحة؟ وعلى قلوب اعترفت بإلهيَّتك محقِّقة؟ وعلى ضمائِر حوت من العلم بك حتّى صارت خاشعة؟ وعلى جوارح سعت الى أوطان تعبُّدك طائِعة؟ وأشارت باستغفارك مذعنة؟ ما هكذا الظَّنُّ بك، ولا أُخبرنا بفضلك عنك يا كريم يا ربِّ.
وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدُّنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها، على أنَّ ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه([40])، يسير بقاؤُه، قصير مدَّته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة، وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاء تطول مدَّته، ويدوم مقامه، ولا يخفَّف عن أهله، لأنَّه لا يكون إلاّ عن غضبك، وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السَّمـاوات والاْرض. يا سيِّدي فكيف لي؟ وانا عبدك الضَّعيـف الـذَّليـل الحقيـر المسكيـن المستكين، يا إلهي وربّي وسيِّدي ومولاي، لأيِّ الاْمور اليك اشكو؟ ولما منها اضجُّ وابكي؟ لأليم العذاب وشدَّته، أم لطول البلاء ومدَّته، فلئِن صيَّرتني للعقوبات مع اعدائِك، وجمعت بيني وبين اهل بلائِك، وفرَّقت بيني وبين احبّائِك واوليائِك، فهبني([41]) يا إلـهى وسيِّدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلـهي صبرت على حرِّ نارك، فكيف أصبر عن النَّظر الى كرامتك، أم كيف أسكن في النّار ورجائي عفوك، فبعزَّتك يا سيِّدى ومولاي اقسم صادقا، لئِن تركتني ناطقا، لأضجَّنَّ([42]) إليك بين اهلها ضجيج الآملين، ولأصرخنَّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينَّ عليك بكاء الفاقدين، ولأَنادينَّك أين كنت([43]) يا وليَّ المؤْمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصّادقين، ويا إله العالمين، أفتُراك([44]) سبحانك يا إلهى وبحمدك؟ تسمع فيها صوت عبد مسلم سُجن فيها بمخالفته، وذاق طعم عذابها بمعصيته، وحبس بين أطباقها([45]) بجرمه وجريرته، وهو يضجُّ اليك ضجيج مؤَمِّل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك، ويتوسَّل إليك بربوبيَّتك، يا مولاي، فكيف يبقى في العذاب، وهو يرجو ما سلف من حلمك، أم كيف تؤْلمه النّار؟ وهو يأْمل فضلك ورحمتك، أم كيف يحرقه لهيبها؟ وأنت تسمع صوته وترى مكانه، أم كيف يشتمل عليه زفيرها؟ وأنت تعلم ضعفه، أم كيف يتقلقل بين أطباقها؟ وأنت تعلم صدقه، أم كيف تزجره زبانيتها؟ وهو يناديك يا ربَّ، أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها؟ فتتركه فيها.
هيهات ما ذلك الظَّن بك، ولا المعروف من فضلك، ولا مشبه لما عاملت به الموحِّدين من برِّك وإحسانك، فباليقين أقطع، لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك([46])، وقضيت به من إخلاد([47]) معانديك لجعلت النّار كلَّها بردا وسلاما، وما كانت لأحد فيها مقرّا ولا مقاما، لكنَّك تقدَّست أسماؤُك، أقسمت أن تملأها من الكافرين، من الجنَّة والنّاس أجمعين، وأن تخلِّد فيها المعاندين، وأنت جلَّ ثناؤُك([48])، قلت مبتدئا، وتطوَّلت بالإنعام متكرِّما، أفمن كان مؤْمنا كمن كان فاسقا؟ لا يستوون، إلهي وسيِّدى، فأَسأَلك بالقدرة التي قدَّرتها([49])، وبالقضيَّة الَّتي حتمتها([50])، وحكمتها، وغلبت من عليه اجريتها([51])، أن تهب لي في هذه اللَّيلة، وفي هذه السّاعة، كلَّ جرم أجرمته([52])، وكلَّ ذنب اذنبته، وكلَّ قبيح أسررته([53])، وكلَّ جهل عملته، كتمته أو أعلنته، أخفيته أو أظهرته، وكلَّ سيِّئَة أمرت بإثباتها([54]) الكرام الكاتبين([55])، الَّذين وكَّلتهم بحفظ ما يكون منّي، وجعلتهم شهوداً عليَّ مع جوارحي، وكنت أنت الرَّقيب عليَّ من ورائِهم، والشّاهد لما خفي عنهم، وبرحمتك أخفيته([56])، وبفضلك سترته، وأن توفِّر حظّي من كلِّ خير أنزلته([57])، أو إحسان فضَّلته([58])، أو برٍّ نشرته، أو رزق بسطته، أو ذنب تغفره، أو خطأٍ تستره، يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ.
يا إلهي وسيِّدي ومولاي، ومالك رِقّيّ([59])، يا من بيده ناصيتي([60])، يا عليما بضرّى ومسكنتي، يا خبيرا بفقري وفاقتي، يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ، أَسأَلك بحقِّك وقدسك، وأعظم صفاتك وأسمائِك، أن تجعل أوقاتي من اللَّيل والنَّهار بذكرك معمورة([61])، وبخدمتك موصولة([62])، وأعمالي عندك مقبولة، حتّى تكون اعمالي وأورادي([63]) كلُّها وردا واحدا، وحالي في خدمتك سرمدا([64])، يا سيِّدي، يا من عليه معوَّلي([65])، يا من إليه شكوت أحوالي، يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ، قوِّ على خدمتك جوارحي([66]) واشدد على العزيمة جوانحي([67])، وهب لي الجدَّ في خشيتك([68])، والدَّوام في الاْتِّصال بخدمتك، حتّى أسرح إليك في ميادين السّابقين([69])، وأسرع إليك في البارزين، وأشتاق إلى قربك في المشتاقين، وأدنو منك دنوَّ الْمخلصين، وأخافك مخافة الموقنين، وأجتمع في جوارك مع المؤْمنين.
 اللّهمَّ ومن أرادني بسوء فأرده([70])، ومن كادني فكده([71])، واجعلني من أحسن عبيدك نصيبا عندك، وأقربهم منزلة منك، وأخصَّهم زلفة لديك[72]، فإنَّه لا يُنال ذلك إلاّ بفضلك، وجُد لي بجودك([73])، واعطف عليَّ بمجدك، واحفظني برحمتك، واجعل لساني بذكرك لهجا([74])، وقلبي بحبِّك متيَّما، ومُنَّ([75]) عليَّ بحسن إجابتك، واقلني عثرتي([76])، واغفر زلَّتي، فانَّك قضيت على عبادك بعبادتك، وأمرتهم بدعائِك، وضمنت لهم الإجابة، فإليك يا ربِّ نصبت وجهي([77])، واليك يا ربِّ مددت يدي، فبعزَّتك استجب لي دعائي، وبلِّغني مناي، ولا تقطع من فضلك رجائي، واكفني شرَّ الجنِّ والاْنس من اعدائي، يا سريع الرِّضا، اغفر لمن لا يملك إلاّ الدُّعاء، فانَّك فعّال لما تشاء، يا من اسمه دواء، وذكره شفاء، وطاعته غنى، ارحم من رأْس ماله الرَّجاء، وسلاحه البكاء، يا سابـغ النِّعم، يا دافع النِّقم، يا نور المستوحشين في الظُّلم، يا عالما لا يعلَّم، صلِّ على محمَّد وآل محمَّد وافعل بي ما انت اهله وصلَّى الله على رسوله والاْئِمَّة الميامين من آله وسلَّم تسليما كثيرا".
يتبيّن مما مرّ معنا، عظمة هذا الدّعاء، وعظمة من علّمه، لا يمكن لصاحب قلبٍ سليم إلا أن يخشع وهو يقرأ هذا الّدعاء، لما فيه مناجاة صادقة للمولى عزّ وجلّ، وتضرّعٍ وتوسّلٍ لله سبحانه، هو درس في العبادة لا يرقى إليه درسٌ آخر، علّمنا إيّاه سيّد العابدين وإمام المتّقين، مولانا أمير المؤمنين، فالسلام عليك يا سيّدي يا أبا الحسن، وجعلنا من أهل اتباعك، ومن أصحاب ولايتك، وجعنا بك في جنة الفردوس هناك مع حبيبك وحبينا المصطفى (ص).
 
 


[1] العلامة المجلسي، زاد المعاد، ص 60.
[2] الكفعمي، مصباح الكفعمي، ص 737؛ الكفعمي، البلد الأمين، ص 237.
[3] ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص 220.
[4]الطوسي، مصباح المتهجد، ص 844.
[5]ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص 220.
[6]المفيد، الاختصاص، ص 7.
[7]ابن حجر، الإصابة، ج 5، ص 486.
[8] ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص 220.
[9] د. محمّد مسلّمي، دراسة الأساليب البلاغيّة في دعاء كميل للإمام علي بن أبي طالب، جامعة طهران، ص2.
[10] اللهم اغفر لي الذنوب التي تذهب عنّا حمايتك وعصمتك التي تنعم علينا بها.
[11] اللهم اغفر لي الذنوب التي استوجب معها نقمتك.
[12] اللهم اغفر لي الذنوب التي تحوّل نعمك علينا إلى نقمة.
[13] الذنوب التي تحبس الدّعاء (التي تمنع وصول دعائنا إليك).
[14] اللهم إني أسألك وأتقرّب إليك بك.
[15] واشفّع جلالك بجلالك، وذاتك بذاتك، فمن هو أعظم منك حتى يشفع لي عندك.
[16] أن تجعليني قريبا منك، وألا تبعدني عن رحمتك لكثرة ذنوبي.
[17] أن تقدّرني على شكرك.
[18] اشتّد فقره وزادت حاجته.
[19]مكره خفي لا يستطيع أحد كشفه.
[20] أمره ظاهر لا يستطيع أحد إخفاءه لعلة خوفٍ أو انتظار ظروف.
[21] يا من قهرت عبادك بقدرتك عليهم.
[22] تجرّأت على مخالفة أوامرك لجهلي.
[23] واطمأننت لقديم سترك ومنّك عليّ.
 
[24] كم من بلاء شديد دفعته عنّي.
[25] كم من عثرةٍ لي وقيتني من آثارها الكارثيّة.
[26] عللت نفسي بالآمال حتّى فاتني العمر دون تحقيق شيء.
[27] زيّفت لي نفسي الحقائق، فبادرت للمعصية.
[28] كثرة المماطلة والتسويف.
[29] حكمت أن أوضع في خيارٍ صعب، فاتبعت فيه هوى نفسي بدل الصبر والمداومة على التّقوى.
[30] العدو هنا هي الشيطان حين يزين للمرء المعاصي.
[31] فدخل عليَّ الشيطان من باب هوى نفسي، وأخذتني العزّة بالإثم.
[32] وساعد الشيطان على ذاك الموقف الضعيف الذي وضعت فيه نفسي في ذاك القضاء والامتحان.
[33] فوقعت في المعصية وتجاوزت الحدود التي حرّمت علينا أن نتجاوزها.
[34] لا عذر لي فيما فعلت.
[35] الخطأ كان خطأي فكان القضاء ضدّي لجهلي وعدم ثباتي على الإيمان والتّقوى.
[36] قد دفعت عن نفسي هذه الذنوب، وتبرأت منها بالتوبة.
[37] ملجئ
[38] أعدني لذاك الوقت الذي كنت فيه بريئاً من الذنوب، وكنت تتولى رعايتي.
[39] أداة تمنّي بمعنى (من المستحيل).
[40] لا يلبث أن ينزاح عن أهله.
[41] افترض أنّي.
[42] أعلي صراخي مستنجداً.
[43] حيثما تجلّيت.
[44] هل من الممكن؟
[45] أسوارها وحجراتها.
[46] الكافرين بربوبيّتك.
[47] الحكم عليهم بالخلود في العذاب.
[48] لك جليل الثناء، وعظيم المدح.
[49] قدرتك التي جعلتها قدراً يخضع له الجميع.
[50] القضاء المحتوم الذي لا رادّ له.
[51] لا مفرّ له من أمرك.
[52] أن تجعل مغرفتك لذنوبي هبتي التي تتكرم بها عليّ في هذه الليلة.
[53] فعلته في السرّ.
[54] أن يسجلوها في سجل أعمالي.
[55] الملائكة الموكلين بتسجيل أعمالنا.
[56] أخيت قبيح عملي برحمتك وسترك عليّ فلم تفضحني أمام عامّة خلقك.
[57] أن تجعل لي حظاً ونصيباً وافراً من كلّ خير
[58] تفضّلت به على عبادك.
[59] أنا له عبد مستَرق.
[60] يمسك بدفّة توجّهاتي.
[61] أن يكون ذكرك على لساني طوال الوقت مالئاً قلبي.
[62] متّصلة بكلّ الأعمال التي تخدم عبوديتي لك.
[63] أدعيتي.
[64] إلى الأبد.
[65] وضعت كلّ أملي فيه.
[66] اجعل جوارحي وأعضائي قويّة في العبادة.
[67] اجعل قوّتي في التقرّب إليك.
[68] أن أكون جاداً ونشيطاً في الخشية من عقابك.
[69] حتّى لا يسبقني أحد إليك.
[70] اللهم من ضمر لي الشرّ فاجعل كيده في نحره.
[71] ذات المعنى السابق.
[72] أقرب الناس إلى جلالك.
[73] تكرّم عليّ بكرمك.
[74] ينطق ذكرك بسلاسة.
[75] امنن وتكرّم عليّ.
[76] أبعد عنّي تبعة أخطائي.
[77] رفعت رأسي ووجهته نحوك.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى