سيرة الامام عليه السلام (الجزء الرابع) في صفاته

اعداد صافي المحمد

2020.09.23 - 08:24
Facebook Share
طباعة

قبل ظهور المبادئ الانسانية للثورة الفرنسية بألف واربعمائة عام، نادى صوت صارخ في برية العرب "أن لا فرق بين عربي، وأعجمي إلا بالتقوى"، والتقوى التي قصدها قائلها هنا، هي ان لا يُذنب الإنسان تجاه نفسه، وتجاه ربّه، وتجاه أخيه الانسان، فلا ظلم بل عدل، ولا عدوان بل تراحم، ولا اكراه، بل دعوة للحب والايمان بكل امر نبيل.
                                
قبل اربعة عشرة قرنا من ولادة شرائع حقوق الانسان العالمية، أي في العام 38 هجرية، الموافق للعام 658 ميلادية، عين الإمام علي بن ابي طالب "مالكاً الاشتر" حاكما لمصر، التي كانت تابعة لدولة الخلافة، والتي كان اغلب سكانها في ذلك الوقت من الاقباط المسيحيين، وفي رسالة تعيينه واليا على مصر، نصّ الإمام (عليه السلام) ما يعتبره المفكرون والفلاسفة في يومنا هذا، أكثر التشريعات الخاصّة بالحكومات عدالة وحكمة، وحرصا على المواطنين، لا على الحكام، وأكثر الوثائق والتشريعات القانونية التي تنصف المواطنين، وتساوي بينهم، بغض النظر عن القومية والدين والجنس والعشيرة واللغة، إذ قال الإمام لوالي مصر:
 
" وأَشعِر قلبَك الرحَّمةَ للرعيةِ، والمحبةَ لهم، واللطفَ بهم (يقصد شعب مصر)، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنمُ أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق، يَفرطُ منهم الزللُ، وتعرضُ لهم العلل، ويُؤتى على أيديهم في العَمد والخَطأ، فأعطهمْ من عَفوِكَ وصفحكَ، مثل الذي تحبُّ أن يعطيكَ اللهُ من عَفوهِ وصَفحهِ، فإنك فوقهم، وولي الأمر عليك فَوقكَ، والله فوق من ولّاكَ، وقد استكفاكَ أمرَهُم، وابتلاكَ بهم، ولا تنصّبن نفسكَ لحرب اللهِ، فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته."
 
بهذه الكلمات السّامية، بيّن الامام علي عليه السلام ألا فرق بين مواطنين مسلمين ومواطنين مسيحيين، أو من أي دين كانوا، بل رسم حقوق الإنسان بأبهى صورها، في زمن كانت فيها الحكومات تمارس التمييز بين من تحكمهم، وفقا للانتماءات القبلية والعشائرية والقومية والدينية، وكان الملوك والسلاطين يسومون الشعوب التي تحت سيطرتهم الذّل والظلم، ويفرّقون بين رعاياهم على اساس الدين والمذهب والقومية، لكن الإمام لم يفعل ذلك، بل حرص على اعتبار البشر جميعا "إخوة" في الخلق، لا فضل لأيّ واحد منهم على الاخر، ولو كان الاول على دين الحاكم، والثاني على دين آخر.
 
إن وثيقة حقوق الانسان المسماة "عهد عليّ عليه السلام لمالك الاشتر"، التي تحدد حق المواطن على الحكام خاصة، وحقوق الانسان عامة، والتي تحرص على شرح ماهية ونوعية رجال الحكم، الذين يجب على الحاكم ان يختارهم لصفاتهم لا لأشخاصهم، وكذلك تضمنت مواصفات رجال القضاء، والجباة والموظفين الحكوميين الصغار والكبار، كانت اول وثيقة متكاملة لحقوق المواطنة، التي لم يقرها المجتمع الدولي الا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذاً فليس من الغريب أن ينبهر بهذا الإمام عظماء العالم، وأن تقر الامم المتحدة في العام 2002 وثيقة تعتبر الإمام من أعدل الحكام في تاريخ البشرية.
 
 
 
ومما جاء في وثيقة " عهد الامام الى مالك الاشتر":
- لا تندمنّ على عفوٍ، ولا تبجّحنّ بعقوبةٍ، ولا تُسرعن إلى بادرةٍ وجدتَ منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأُطاع، فإن ذلك إدغالٌ في القلب، ومنهكةٌ للدين، وتقربٌ من الغير.
 
- وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ.
 
- إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ.- أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ
 
- وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِوَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ
 
ومما جاء في الوثيقة ايضا:
- وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.
 
- أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.
 
- وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ..
 
- شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً1 فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَة2 وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ،.
 
ثم يتابع الامام في عهده للأشتر، فيقول:
- وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ: أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ .
 
- وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لهُ قِبَلَهُمْ.
 
- ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ.
 
- .ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ.
 
- ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ2، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ.
 
يتابع الامام في عهده للأشتر:
ثُمَّ اللهَ , اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، فإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ ، وَاجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَتُقعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ ، حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ.
 
- وَأَمَّا بَعْدَ، فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَالْإِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دوُنَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمْ الْكَبِيرُ وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ. سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مُبْتَلَىً بِالْمَنعِ فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ !مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لاَ مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ.
 
قبل ألف واربعمائة عام، نادى صوت صارخ في برية البشرية، قائلا لمن بيده مصير المهزومين في الحروب، أن: "واجعل العفو عن عدوك شكرا لله على قدرتك عليه".
 
قبل ألف وبضع مئة سنة من ظهور الدستور الأميركي، والمادة الاولى التي تقدس حرية التعبير، رفض الإمام علي بن ابي طالب -عليه السلام- ان يتعرض أيٌّ من اتباعه، فضلا عن شرطته ورجال جنده، للمعارضين الذين عاشوا في عاصمته، وتحت سلطانه، ورهن قبضته، طالما أنهم لا يرفعون سيوفهم، ولا يعارضون سوى بألسنتهم وآرائهم، حتى ان احداً لم يمنعهم من الدخول الى حيث كان الامام يصلي صلاة الصبح، فاغتيل على يد ابن ملجم، الحرّ الطّليق، مع انه من محاربي الإمام ومعارضيه.
 
ما هو سر عظمة علي بن ابي طالب عليه السلام؟ وما الذي جعل من لا يتبعون دينه يعشقونه، فيقولون فيه مجلدات من الفكر والفلسفة في شرح ما فهموه عنه ومنه؟
 
 
 
يقول الامام الشافعي صاحب المدرسة الفقهية التي تمثل مئات ملايين المسلمين السنة:
يا ربّ بالقدم التي أوطأتها من قاب قوسين المحلَّ الاعظما
وبحرمة القدم التي جعلت لها كتف المؤيد بالرسالة سلَّما
ثبّت على متن الصراط تكرما قدمي وكن لي محسنا ومكرما
واجعلهما ذخري فمن كانا له أمن العذاب ولايخاف جهنما
 
****
 
أهل النهى عجزوا عن وصف حيدرة والعارفون بمعنى كنهه تاهوا
قيل امتدح لأمير النحل قلت لهم مدحي ومدح الورى من بعض معناه

 

ماذا أقول لمن حطت له قدم في موضع وضع الرحمن يمناه
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى