خليل فرحات في محراب عليّ

2020.09.15 - 07:38
Facebook Share
طباعة

 
خليل فرحات في سطور:
أبصر الشاعر خليل فرحات النّور في زحلة عام 1919، درس وتلقّى علومه في معهد الكلية الشرقية في زحلة، ثم نال شهادة البكالوريا اللبنانية عام 1937 محققاً المركز الأول بين الطلاب اللبنانيين الذين نجحوا في تلك السّنة. ربّما كانت هذه أولى إشارات النّبوغ لديه، فهو متعطّشُ للعلم والمعرفة منذ تفتّح وعيه. لم يرضِ طموحَه حصوله على درجة الإجازة في اللغة العربيّة من الكلية الشرقية بل تابع دراسته العليا في جامعة مونبيليه في فرنسا، بالمراسلة، رغم انشغاله بالتدريس في مدرسة القلبين الأقدسين في زحلة، وفي دار المعلمين وفي الجامعة اللبنانية. لمع نجمه منذ بداية الأربعينيات في القرن الماضي، لقيامه بمجهود واسع في عقد الندوات والأمسيات الشعرية، في مختلف المدن اللبنانية، وفي محطات التلفزة العربية والعالمية، ومساهمته في تأسيس مجلس زحلة النقابي، وترأسه له لأربع سنوات.
بعد انطلاقته مع الصحف المحليّة التي تصدر في زحلة، كصحيفة "البلد"، ومجلّة "الوادي"، ودوريّة "زحلة الفتاة". ثمّ بدأ يكتب للعديد من المجلات والدوريّات اللبنانيّة والعربيّة واسعة الانتشار آنذاك، كمجلّة "الحكمة"، وجريدة "النهار"، وجريدة "الأنوار"، ومجلة "المكشوف" وغيرها، فكان بحق أديباً ومحققاً، أثبت جدارته في عالم الأدب والشعر، والصحافة والفكر.
ترك مؤلفات نثرية وشعرية عديدة، نذكر منها "تباريج"، "هي الكتاب"، "في محراب علي"، "الفارس والأبراج"، "الموجز في تاريخ زحلة"، "دراسات جديدة في الأدب العربي"، "تاريخ زحلة"...
كانت حياته عبارة عن محطّات فكريّة ووجدانيّة عديدة، ابتداءً من تغرّبه عن بلده لبنان لسنواتٍ عشر قضاها في أفريقيا، صقلت شخصيّته الأدبيّة من خلال تصويره الرّائع للحنين للوطن، ثم تتالت الآلام في حياته، من رحيل حفيده، إلى الخسارة الكبرى التي ألمّت به عام 1981، إذ تهدم بعض أجزاء منزله إبّان الحرب اللبنانية، فإحترقت مكتبته الضخمة، تلك القيمة الحضارية التي أفنى عمره في جمعها وتصنيفها، وضمّنها العديد من المجلدات والمخطوطات النّادرة، وأمّهات الكتب التي اختارها خلال رحلته الطّويلة وسنين تنقّله.
مثّل لبنان في لندن في مهرجان علي بن أبي طالب، وحاز وسام الإستحقاق اللبناني برتبة فارس من رئيس الجمهورية اللبنانية الأستاذ الياس الهراوي. وحيث أنّ نقطة ضعف الشّعراء قلوبهم، توفي عام 1994 إثر توقف قلبه عن الخفقان بعد عملية صعبة، ليخسر الفكر والوجدان العربي قيمة نادرة من الأدب والفن والإبداع.
أحبّ خليل فرحات اللون الأبيض في كلّ شيء، ما عدا الورق، فقد آلى على نفسه أن يملئ الورق الأبيض بالكتابة، حتّى علب السّجائر كان يكتب على خلفيتها البيضاء شعراً ونثراً ضاع أغلبه مع الأسف لعدم حفظه.
تفرّد بلغةٍ جزلة، قويّة، لم يسبقه إليها أحد، استعرض فيها امكانيّاته العالية في صياغة النصوص الأدبيّة والشعر. وتعددت مواضيعه الشعريّة بين الغزل وحب الوطن، والفلسفة اللاهوتيّة.
خليل فرحات والإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):
تأثّر خليل فرحات بفكر بالإمام عليّ (عليه السلام) رغم نصرانيّته، فهو لم يعرف عليّاً من خلال القرآن، ولا السنّة النبويّة الشريفة، بل تعرّف عليه من خلال نصوص نهج البلاغة المنتشرة هنا وهناك، فاسترعى انباهه الأسلوب الإنساني العميق، واللغة الفصيحة التي قلّ مثيلها في المكتبة العربيّة، فبدأت رحلة المعرفة مع فكر عليّ الإنسان، إلى أن استولى حبّ عليّ على قلبه، فألّف فيه ديوان شعر كاملٍ أسماه في "محراب عليّ".
لم يكن ذلك محض صدفة، بل كان تجليّاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) في حياة هذا المفكّر الوجداني الذي تعلّق به، ومن لا تستهويه شخصيّة أمير المؤمنين إلا من نُزعت من قلبه الإنسانيّة والمحبّة؟ فهو المسيحيّ المتمسّك بنصرانيّته، المعتزّ بانتمائه، "لكنّ عليّ يخصّ الجميع"، هكذا كان جوابه لمن حاول الغمز بعقيدته بعد نشر ديوانه "في محراب علي".
أصيب خليل فرحات بداء استعصى شفاؤه، فقرر الاطباء بتر ساقه من تحت الركبة. في الليلة السابقة لموعد اجراء العملية نام أهل بيته على همّ ذاك الألم المادّي والمعنويّ المرافق للبتر. لكن خليل فرحات كان مطمئناً جداً، كان يعرف أنّ له وسيلة إذا تقرّب بها إلى الله لن يردّه خائباً. هي عقيدة ترسخّت عنده بعد شواهد كثيرة سمعها من هنا وهناك خلال تحقيقه عن أخبار أمير المؤمنين (عليه السّلام)، أناس شفاهم حبّ عليّ، فكيف لا يشفيه هذا الحبُّ وهو الذي نذر أن يزور حبيبه في النّجف الأشرف إنّ تمّ له الشّفاء؟ فعليّ لا يعرف طائفة، ولا مذهباً، هو صفاءٌ خالص يعتري قلوب الوالهين بحبّه، فيحولهم من أتباعٍ إلى سادة، وهذا ما حصل مع خليل فرحات.
يقول الشاعر نجيب جمال الدين ناقلا عن لسان خليل فرحات: "بقيت يا صاحبي عشرة أيام، ورجلي هذه، وأشار إلى اليسرى، مرفوعة إلى العلاء بحبل، بعد أن احتبس فيها الدم واعتصم، وأبى أن يدور، وذلك بسبب انخفاض السكر أو ارتفاعه لا أدري، وتهدّد الجسد كلّه، لا الرجل فقط. عندها اجتمع الأصدقاء من الأطباء إليّ في البيت، وكان القرار بالقطع، لم أعترض إنَّما قلت: لديّ مشوار إلى عليّ، فإن قطعتم، فكيف أمشي؟ لم يفهموا.. إلا صديقتك جورجيت -يعني السيدة قرينته- فقد قالت: كفى بربك! ودعنا الآن من الشعر، فالمسألة فيها حياتك، يعني نحن جميعًا! وأجبتها: ولأنها كذلك، فهذا موقفي! وأكمل: ثم انصرفوا، وبعد يوم واحد، فككت رجلي من المشنقة، وقمت ولم أعُدْ بعدها للفراش، أفلا ترى أنَّ الإمام هو الذي أمرني بالرحلة، فكيف أتخلّف! ثم ألا ترى أنَّه كان كما أحب، فكيف لا أكون كما يُحبُّ، وبخاصّة كما يحب! وأضاف: يا أبا فيصل، لن توحش الطريق، ما دام فيها ذلك الرفيق! ثم كتب بعد ذلك ديوانه "في محراب علي".
تقول شيراز ابنته حين سئلت عن قصّة أبيها مع الإمام: "هي قصة إيمان، وثقة بربنا، ووالدي كان يقول إن الله لكل الطوائف، بحيث كل شخص يسير في استقامة مع الله، سيجيبه الله وسيساعده ويلبي طلباته، فلو لم يعش الإمام علي في تلك الأيام، حياة كلها طاعة لله الذي يعبده، لم يصل إلى ما وصل إليه".
 
يقول الشاعر خليل فرحات في وصف الإمام، يا من رددت الشّمس من بعدما غابت بإشارة من كفّيك المباركتين، فعادت إلى وقت العصر من بعد غروبها، كي يتسنّى لك أن تصلّي ما فاتك:
 
خذ الشمس إذ كفاك قالا بــــــــعودة فشمس غروب تلك عادت إلى العصر
 
فلا عجب أنها استجابت عن رضى، فأنت الآمر في هذا الكون، وهي من المخلوقات المأمورة:
 
وما عجبٌ فيها استجابت على رضى        أليست هي الدنيا وتصدع بالأمر
 
 ويقول إن تُسأل الجوزاء والكواكب من سيّدها، لأشارت إليك أيها النّور الزاهر في الأرض، فمن يسود النّور إلا النّور؟:
 
وإن تسأل الجوزاء من بات رَبُّها    أشارت إلى علياك بالأنمل العشر
 
 فأنت وحدك الذي تدري أسرار هذا الكون، والناس ما عرفت في تاريخها مثلك، يا من بيدك عصرت وأمسكت مفاتيح الأسرار:
 
دَرَيتَ وكل الناس مثلك لم تدر       فقد صُبَّت الإعصار عندك في عصر
 
 وأنت أمير الحدس والفهم والفراسة، وتعرف ما لا يُعرف من بواطن العلوم:
 
وكنت أمير الحدس تدرك غورها    وتسبُر أخفاها العصي على السبر
 
 
وأنت الطريق إلى الرّحمن، وقد تجلّت آيات الرحمن في كمالك وعظمتك:
 
دللت على الرحمن هل كنت غيره    ففيك استوى الرحمن بالفعل والفكر
 
قد تجلّت في سجاياك قدرة الله، وعظمة الله، كما أودع الله نوره في حبّات الدّر يراها النّاس رأي العين:
 
وفيك تجلَّت قدرة الله آيةً      كما شعشعت في الضوء خالصة الدر
 
وأنت الذي تشدّ هذه الأرض بك ظهرها وتستقوي على الأزمات، ولولا أن كرّمها الله بخلقك فيها لاندثرت الأرض وأصبحت صعيدا جرزا:
 
تعالت بك الأرضون واشتد ظهرها   فلولاك هذي الأرض مقصوصة الظهر
 
لما سبق، قد يأخذ البعض من الجهّال على الشّاعر والأديب والفيلسوف خليل فرحات مغالاته في وصف الإمام علي (عليه السّلام)، وتصريحه اللفظي المباشر بنسبة صفات لاهوتيّة لشخصيّة الإمام، الأمر الذي قد يُشكل على ناقصي الفهم والإدراك، ويدخلهم في خلطٍ قد يؤثّرُ على مفهوماتهم الإيمانيّة. ربّما لاهوتيّة خليل فرحات هي التي أعطته تلك المساحة في الألفاظ والدّلالات، فهو ابن بيئة دينيّة، تعلّم فيها أبجديّات الحياة المترهبنة إلى الله، فانتقى لشعره منها كلّ الألفاظ التي تحمل أبلغ المعاني الإيمانيّة وتحمل المرء إلى عالم سامٍ نورانيّ، فها هو يقارن بين شخصيّة السيّد المسيح، وشخصيّة الإمام عليّ عليهما السّلام، في العطاء والمثل العُليا للأخلاق، وفي المحبّة والتسامح، وانتصار العقيدة على هوى النّفس، فيقول أنت في قوّتك رغم سماحتك كالمسيح حين دخل الهيكل في بيت المقدس، فوجد فيه ما وجده من الرّائين (عُبّاد الدرهم والدينار)، فلم يدر خدّه لأحد، بل طفق يضربهم بالعصا والسّوط:
 
وقيلَ مسيحُ الحب ضاق بحبّه                وَكَرَّ على الرائين بالسّوط والزَّجرِ
 
 يصيح بهم هذا البيت للعبادة هذا بيتي وبيت الله، ويحكم لقد طردتم الفقراء منه وأبقيتم على الأغنياء:
 
وَصَاحَ: دعوا بيتي دعوني فإنما     سواكم أنا، والبيتُ شردتم قِطري
 
هذا البيت للتّعبّد والتّنسّك وليس للتّجارة واللصوصيّة التي تقومون بها باسمي:
لقد شُيدَ بيتي للتعبُّد والهدى         فحوَّلتموه للتلصًّص والفُجر
 
حتّى تبعثرت أموالهم في أرض الهيكل يدوسها بقدميه، ويوبّخ ويسخر من عُبّاد الدّراهم والدّنانير:
 
وكَمْ داسَ أرزاقاً وَعَفْرَّ أوجُهاً        وَأغرقَ عبَّاد الدوانق بالسُّخْرِ
 
 وأنت مثله يا إمام، عاملت النّاس بما يمليه عليك دينك ومحبّتك، فردّوا عليك ذلك بالنكران والفجور، وحملوا لك كلّ ضغينة:
 
وأنتَ وسعتَ النّاسَ دوماً برحمةٍ    وقد أمطروك الوِتر في آثرِ الوترِ
 
 لكنك استطعت أن تكبت نوازع الانتقام في نفسك العليّة، وأيّ نفسٍ عظيمة هي نفسك التي كبتَ كبرها، وأنت الوحيد الذي يحقّ لك أن تتكبّر من بين البشر لكنك ما فعلت:
 
عَلوتَ وكنتَ النفس أكبرِ قادرٍ       على قهرها، تلك المليئة بالكبر
 
تلك الاستطاعة التي يعجز عنها النّاس أصحاب العقول القاصرة، لكنكَ استطعت ذلك لعظمتك في كبت هوى النّفس، وتجرّأت عليها وقهرتها، ومن مثلك يستطيع؟:
 
وقصَّرَ عقلُ النَّاسِ عن قهر ميلِهم   فبوركت قهَّاراً على النفسِ يستجري
 
يشرح الشاعر نجيب جمال الدّين، الصّديق المقرّب للشاعر خليل فرحات هذا الجانب بالقول: "خليل فرحات سمح لنفسه بالدّخول إلى عليّ، اقتحامٌ لم يجرؤ عليه أحد. السّفر إلى عليّ، حاوله كثيرون ذوو ولعٍ بالمغامرة، لكنّهم ظلّوا يراوحون على خطوط التّماس. لماذا انطلق خليل فرحات من مواقع متشددة في العليائية أو العلويّة؟ ربّما هي محاولة لبناء الإنسان العربي الجديد، وهذه مسألة تربوية، وخليل مربٍ، ويهتمّ بإعداد إنسانٍ قادرٍ على المواجهة، بعدما أفلست كلّ العصور".
إنّ إيغال خليل فرحات في المجاز بشعره، خاصّة في وصف عليّ، يجعل القارئ في حيرة من أمره، فخليل الفيلسوف لم يكن يؤمن مطلقاً بفكرة "الحلول" الصّوفيّة، لكنّ شعره يكاد ينضح بها، فإذا أخذنا الفكرة مجرّدة فإنّها تصح من حيث المبدأ، فالله سبحانه وتعالى، يتجلى -بلا ريبٍ- في مخلوقاته. بلا شكّ إنّها مغامرة كبرى، أن تغوص في المجاز لدرجة أن تقول:
دللت على الرحمن هل كنت غيره    ففيك استوى الرحمن بالفعل والفكر!
يقول الشاعر نجيب جمال الدّين في ذلك:
"القارئ الجيّد هو الذي (يشتلق)، والاشتلاق هو لفظ يطلقه عامّة النّاس على الفطنة، والملاحظة بعين العقل، لا عين الوجه، وإلا لو كان القارئ محروماً من تلك العين التي بؤبؤها الدّماغ، وقرأ آية {كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها} لوقع في معصيةٍ تهون عندها كلّ المعاصي الأخرى". إذاً فغاية خليل فرحات في الإيغال الرّمزي ليس الغلوّ والتّكلّف، وإنّما تعويد القارئ على الإبحار إلى ما وراء الكلمة، والمعنى الظّاهري، فكيف إذا كان الموصوف عليّاً، يقول نجيب جمال الدّين في معرض دفاعه عن خليل فرحات: "أرمسترونغ اقتحم القمر، وهو بضعة من أرض، ولكن عليّ أصعب من القمر والشّمس أيضاً، أوليس خليل هو الذي عالج تلك المسألة؟ وحاول إخضاع الأسطورة لشحنة الشّعور الشّخصي، والقناعة الفرديّة؟ وعليّ يردّ الشّمس لقضاء فريضة! فما عُرف عنه قضاء".
بالمقابل لم يقف خليل فرحات عند الرّمزية فقط، فهذه اللغة مطواعةٌ لأجل عليّ، وهو الذي طوّعها، لذا خاطب فرحات العامّة مشيراً إلى ذلك بلغةٍ مباشرةٍ بيّن فيها فضائل عليّ على اللغة، والفقه، والنّحو. اللغة التي لولاه لما كنّا نستطيع الآن أن نقرأ بالأريحيّة التي هي عليها الآن، فاللغة بصريحها ومجازها تقرّ بالفضل لعليّ، فالفقه كالإعصار يصعب على الضّعفاء تحدّيه، تراه يأتي إلى عليّ منصاعاً كالمهر المروّض:
 
أرى الفقه كالإعصارِ ندّ شكائماً     ولمّا نهضتَ انصاعَ كالريّضِ المهرِ
 
وكذلك النّحو الصرف يتسلمان لمشيئته فلولاك ضاعت قواعده، لكنك حين قلت له ارجع استدار نحوك استدارة المخمور بحبّك:
 
أرى النّحوَ في الدّيجورِ ضاعتْ دروبهُ      وقلتَ لهُ ينحو فماسَ بلا خمرِ
 
والخطّ العربيّ كانت أصوله غامضة، غائرة، لولا أنّك ظهّرتها للنّاس بعلمك ومنهجيّتك الواضحة:
 
كذلك كان الخطّ خطواً بعتمةٍ وأنتَ جعلتَ الخطَّ في ضحوةِ الفجرِ
 
وفضلك على اللغة إذ حفظت قواعدها من الاندثار والضياع، كفضل اللمعان على الذّهب، إذ لولاه لما فرّقنا بين الذّهب والصّفيح:
 
كذا اللغة السّمحاء عندك نضّرتْ    كما رقرق الإشعاعُ تبراً على تبرِ
 
هذه اللغة لولاك ما سمت معانيها، ولا ارتفعت بروجها، وأنت الذي فتح الل عليك باب العلم، وأنت الذي حُزت زحدك مفاتحه:
 
رفعت معانيها وشدت بروجها        وكم فرّج الأبراج مفتاحك السّحري
 
فأنت الذي دللت على المعلوم، وأنت الذي أظهرت المجهول، ولولا أنّك أظهرته لذلّ مجهولاً إلى يوم القيامة:
هو العالم المعلوم لولاك ما نما      ولم يُفر مجهول لو انّك لم تفرِ
 
 مقتطفات من ديوان في محراب عليّ للشاعر الراحل خليل فرحات
 
يقول فرحات: أنّه من الثابت علم عليّ للغيبيّات، وهذا واضح في الكثير من المرويات عنه سواءً على لسان النبيّ (ص)، أو على لسان الصحابة، لكنّه يتساءل هنا، هل يكفي أن نصفه بصفة واحدة من العلم؟ إذاً فما قولنا بعلمه بالكيماء والجبر؟ بل هو عالم ملم بكلّ العلوم:
لئن كان كل الغيب عندك علمه       فما عالم الكيمياء؟ أو عالم الجبر؟
يقول الشاعر في شجاعته (عليه السلام) إن قولهم عنك أشجع وأوزن فارس لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج استراتيجيّة تبنيتها يا عليّ طوال حياتك، ألا وهي إرسال من يتحداك إلى حتفه بلا تردد، غير أنّك تترك الفار من أمامك وما فررت من أمام أحد:
 
وقالوك في الهيجاء أوزن فارس     تُداري الألى فروا وتأنف من فر
 
ولم يكن هذا إلا لوجه الله، فأنت لم تقاتل أحداً لمصلحة دنيونيّة أو لمنفعة خاصّة، بل إن سيفك كان ميزاناً سماوياً لفصل الخير عن الشرّ:
 
وعندك كان القتل خلوا من الأنا      فسيفك قوّام على الخير والشر
 
 ثمّ يتساءل هل سيفك ذو الفقار هو دواءٌ للكفر؟ حتّى تتسابق أعناق الخطاة إليه معلنة التطهّر بحدّه، فتتهاوى أمام سيفك فرادى ومثنى:
 
سألتك هل تشفي الذي أنت صارع   لكفر؟ لذا الأعناق تحلم بالغفر
تحاشي ظبي الأسياف غير ملومة   وتهفو إلى عضبيك بالشفع والوتر
 
يتابع فرحات موغلاً في الرّمزيّة إذ يشير إلى قول بعض أهل اللم في إعطاء الإمام عليه السلام شراكة في القدسيّة السماوية، باعتباره شريكاً في أسهم الربوبيّة، فلا هو أنكرها عليه السلام ولا الاله أنكرها عليها:
 
وقالوا بل الأرباب أعطتك أسهما     فلا أنت باريها ولا هي تستبري
 
 فالكل مرهون بالقدر إلا عليّ عليه السلام، فهو وحده يقدر إيقاف مفعول الأقدار:
 
وهن مقادير على الخلق تنقضي     وإن تحظر الأقدار أنت أبو الحظر
 
 
هي أقاويل اشترك في إطلاقها الجاهل والعالم، ونريد الحقيقة منك يا أمير المؤمنين، ومن غيرك يعرفها:
أقاويل فيها الجهل والعلم والهوى   وفيها الذي قل لي فغيرك لا يدري
 
يتابع الشاعر في وصف الأقاويل المأثورة في إمامنا المبجّل، فمنها من قاله محب، ومنها من قالها مبغض، ومنها ما خضع للسياسة فنزع إلى إسقاط مناقبك الجليلة لتبرير الولاية لغيرك، فتأتي أقوالهم غير محكمة وضعيفة مهلهلة:
 
وأقوال من خانوا وأقوال من وفوا   وأقوال سواس مهلهلة الأزر
 
فمرّات نرى فيك من يقول الحق مراعياً إيمانه، ومرّات نرى من يظهر فيك كفره المتوارث من يوم الفتح والعفو عن أجداده الطلقاء:
 
فمرّاً أرى الإيمان يهدر صوته       ومرّاً الكفران في أقبح الهدر
 
فمن يريح الناس من هذا الاضطراب فيك، ويقول الحقيقة التي ترضي الإله بحقيقتك النورانيّة ويسكت تجار الرذيلة الذين يحاولون تشويه صورتك ويلقمهم الحجارة:
 
فمن ذا يريح الناس إن تاجر الخنى ويلقم أحجارا دهاقنة التجر
 
يقول فرحات أيضاً، أن الدروب التي لا توصل إليك يا أمير المؤمنين هي دروب عسيرة مهما كانت يسيرة، فأنت يا أمير المؤمنين علم في رأسه نار، تستدل الناس من كل فج عميق على نهجك من آثارك الواضحات كقبس النار في الليالي المظلمة:
 
سواك سوى رب الدروب جميعها    عسير السير في الأدرب العسر
تجليت نهاجا تؤج نهوجه    كما أج في الأرياح مشتعل الجمر
 
يتابع فرحات، إنّ الباطل الذي اجتمع عليه مبغضوك زهق وتلاشى، فلم يجدوا لباطلهم أساساً يستندون إليه ، بينما أنت أبو الحقّ والأسس الرّاسخة المتينة:
 
تفرق عنك المبطلون فما رأوا       لبطلهم أزرا وأنت أبو الأزر
 
وحقك أبيض ناصع باق بقاء الإيمان، فطاب لمن تمسّك بولايتك أن يتمتع باليقين وينجو من الشرك كما نجت الحمامة من مخلب النسر، مع ذلك لم يهن عليك يا مولاي ابتعاد أهل الباطل عنك مخافة ما سيصيبهم من عذاب الله، فأنت صاحب القلب الإنساني الطيّب، الذي يرى هداية شخص أغلى من كنوز الأرض:
 
وطاب لمن شكوا نجاة يقينهم        كما نجت الورقاء من مخلب الصقر
وعز عليك الهاربون من العمى      إلى مشرق العرفان والفلك الإمر
 
يمتدح فرحات المزارات التي خلّدت تشريفات مولانا أمير المؤمنين، فالكلّ يحتفي بمقام زرته أو أقمت فيه، وكأنّما فاز بليلة القدر، وتبكي الأراضي التي لم تزرها وتطالب أن تزروها وتباركها:
 
وصارت رباع الهدي نشوي بركنها كما تنتشي الأقدار في ليلة القدر
هيامى بك الدارات ما دست أرضها ويعول حتى الرمل إن قمت بالهجر
 
يقول فرحات، لآجلك يا أمير المؤمنين أصبحت شاعرا وأحببت ما أصوغه لأنّه كُتب في فضائلك، وتخلّصت من بداوتي وجاهليتي لأنعم بأقداس نورانيّتك:
 
لأجلك واكبت الحضارة شاعرا       وأنزلت أحمال البداوة عن ظهري
 
ولأجلك يا مولاي كتبت قصائدي وأودعتها أمانات في وجدان أصحاب الفكر على مرّ الدّهور، فتخلّدت قصائدي بذكرك فلا حر الولاية يحرقها، ولا برودة النصب يجمّدها:
 
وأودعت وجدان الزمان قصيدتي     وما خفت يبريها فم الحر والقر
 
فكتبت فيك بياناً لا يظهر معناه إلا للعباقرة من أمّة العرب، ويتبارك به ملوكها ورؤساؤها، فكأنني ملك هذه الدنيا لأنني استلهمت منك قدوتي وتأسيّت بسيرتك العطرة الزكيّة:
 
يقبل أعلاه عباقر أمتي       ويلثم أدناها قياصرة العصر
كأني على الدنيا لأنك ملهمي أجر ذيول الفخر كالمارد النمر
 
يختم فرحات بالقول، لقد اعتليت أعلى مراتب الإنسان، حتّى وصلت إلى مراتب القدسيّة الإلهيّة، فما يفصلك عن مقام الربوبيّة إلا قاب قوسين، أو أدنى:
 
رقيت ربى الناسوت ثم سبرته       وطوفت باللاهوت شبرا ورا شبر
لعلي أراك انزحت قيد قلامة         ليبرز بعض الظن أو طيفه السري
 
فأنت الإنسان كما المسيح، وأنت المقدّس معنىً مثله تماماً، فما كنت إلا نموذجاً قياسيّاً أرسله الله تعالى لما نحن البشر كي نتأسّى بك، لكن هيهات أن يرقى لمقامك بشر، فأنت الذي لا نظير لك في الخلق أبداً:
فما كنت في الكنهين إلا هما معا     وما كنت إلا ذلك الباذخ المثري
وما كنت إلا السيد الضابط الدنى    عجيبا غريبا مفردا وبلا نظر
 
 
المراجع
1. الإمام عليّ في الفكر المسيحي المعاصر» لراجي أنور هيفا، ص 179.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى