الأديب والمفكّر جورج جرداق والامام (عليه السلام) -1-

2020.08.24 - 10:04
Facebook Share
طباعة

جورج جرداق (1931-2014): أديب ومفكر لبناني، عمل بالتأليف والصحافة، شاعرٌ له العديد من الدواوين والمؤلفات، أشهرها قصيدة هذه ليلتي التي لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وغنّتها كوكب الشرق أمّ كلثوم. اتّسم أسلوبه بالفلسفة العميقة، والشاعريّة. من أهمّ مؤلّفاته على الإطلاق موسوعة "الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة"، جاء في خمسة أجزاء، "عليّ وحقوق الإنسان"، "عليّ والثورة الفرنسيّة"، "عليّ وسقراط"، "عليّ عصره"، "عليّ والقوميّة العربيّة"، وأخيراً "روائع نهج البلاغة". سنحاول في هذه المقالات أن نعرّف القارئ الكريم على تلك العلاقة السّامية التي جمعت أديبنا بالإمام عليّ (عليه السلام)، مسلطين الضوء على ما استشرفه جورج جرداق من صفحات مشرقة في علم وفكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
سنوجز أولاً في شرحٍ مبسّط أهمّ الأفكار التي تناولها الأديب والمفكّر العربي جورج جرداق في موسوعته، وأفرد لها أجزاءً تحتوي مئات الصّفحات، جاءت خالية من الحشو والإطناب، فهو -كما يقول- عندما يبدأ الكتابة عن عليّ يصعب عليه التّوقف. وسنتناول على التوالي أبرز أفكار أجزاء الموسوعة:
أولاً- الإمام وحقوق الإنسان:
من المعروف أن حقوق الإنسان لم تتبلور كعلوم قانونيّة مقننة إلا في وقت متأخر من تاريخ البشريّة، بعدما طحنت حربان عالميّتان الدّول التي تعدّ نفسها متحضّرة، غير أنّ هناك من سبق فقهاء القانون بأزمان في إرساء أساس وقواعد حقوق الإنسان، قبل أن يفطن لها الغرب، وقبل أن تنظّر لها الأمم المتّحدة بلجانها ومكاتبها، إنّه الإمام عليّ برأي جورج جرداق، فكتب في كتابه "علي وحقوق الإنسان" قائلا: «قد كان لعلي بن أبي طالب في تاريخ حقوق الإنسان شأن أي شأن، وآراؤه فيها تتصل اتصالًا كثيرًا بالإسلام يوم ذاك، وهي تدور على محور من رفع الاستبداد، والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس، ومن عرف علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع أدرك أنه السيف المسلّط على رقاب المستبدين الطغاة، وأنه الساعي في تركيز العدالة الاجتماعية بآرائه وأدبه وحكومته وسياسته، وبكل موقف له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها، وتأسيس الأمجاد على الكواهل المتعبة». 
غريب فعلاً هذا التوافق بين العلوم الإنسانيّة والاجتماعية الحديثة، وما جاء به الإمام (عليه السلام) من آراء وأصول تتعلّق بحقوق الإنسان، ففي هذا يقول المفكّر والأديب جورج جرداق: ”للإمام علي بن أبي طالب في حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصول وآراء تمتد لها في الأرض جذور وتعلو لها فروع، أما العلوم الاجتماعية الحديثة فما كانت إلَّا لتؤيّد معظم هذه الآراء وهذه الأصول، ومهما اتخذت العلوم الاجتماعية من صور وأشكال، ومهما اختلف عليها من مسميات، فإن علّتها واحدة وغايتها واحدة كذلك، وهما رفع الغبن والاستبداد عن كاهل الجماعات. ثم بناء المجتمع على أسس أصلح تحفظ للإنسان حقوقه في العيش وكرامته كإنسان، ومحورها حرية القول والعمل ضمن نطاق يفيد ولا يسيء، وتخضع هذه العلوم لظروف معينة من الزمان والمكان لها الأثر الأول في تكوينها على هذا النحو أو ذاك".
 
ثانيًا- الإمام والثورة الفرنسية:
لطالما استهوت الثورة الفرنسية المفكّرين والفلاسفة بأسبقيّتها في مجال الحريّات وحقوق الإنسان، وإعلانها أن الحرب على الظلم والطغيان هي حرب أممية، وليست حرباً وطنيّة، ففي مبادئها التي بادرت لإعلانها تجميع لكل ما في الإنسانيات من سمو، فكانت تمثّل المحطة الأولى في تاريخ تطور فكرة حقوق الإنسان، إذ عرفت بإعلانها الشهير الموسوم بتسمية (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) الصادر عن الجمعية التأسيسية سنة 1789م، والمكوّن من سبعة عشر مادة. غير أنّ للأديب والمفكر رأي آخر، فقد شبّه سيرة الإمام بالثورة التي سبقت الثورة الفرنسيّة بزمان، وأنّه بالفعل صاحب الإعلان الأسبق لحقوق الإنسان.
قارب جرداق تلك العلاقة بين الإمام ومسألة حقوق الإنسان من زاويتين. زاوية خاصة تتعلّق بها في نطاقها العربي والإسلامي، وزاوية عامة تتعلّق بها في النطاق الإنساني.
 
الزاوية الخاصة كانت موضوع القسم الأول، وفيه طابق جرداق بين مبادئ حقوق الإنسان وسيرة الإمام ونصوصه، وتجلّياتها في تربيته وأخلاقه وأدبه، وكيف اظهرتها مواقفه وأقواله التي أبرزت عناوين الحقوق والحرية والعدالة والمساواة وغيرها.
 
أما الزاوية العامة فكانت موضوع القسم الثاني، وفيه قارب جرداق مسألة حقوق الإنسان من جهة المقارنة بين نصوص الإمام ومبادئ الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان في ناحية، وبين نصوص الإمام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ناحية أخرى، لكون أن الإمام في نظر جرداق يمثل أحد عظماء الإنسانية الذين أسهموا في الإعلان عن حقوق الإنسان.
 
جاءت هذه المقاربة من جرداق مرتكزة على حجة وصفها بالحجة الكبرى، لكونها من المقاربات غير المألوفة، وتقع بعيدة عن الخيال، ولا تخطر على البال، فمن الذي يتنبّه لمقاربة بين الإمام والثورة الفرنسية، ومن يقترب من هذه المقاربة يتلمس الحاجة لتوثيقها بالحجة أو الحجج تحرّيًا لعلمية البحث وموضوعيته.
 
عن هذه الحجة الكبرى قال جرداق: "وحجتنا الكبرى في هذه المقاربة ليست عثورنا على عبارة هنا، وعبارة هناك لابن أبي طالب تقابل في المعنى تلميحًا، أو تصريحًا هذه العبارة، أو تلك من المبادئ السبعة عشر التي تتألف منها وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية، والتي هي نتاج عمل الإنسانية المشترك خلال عصور التاريخ جملة، فتلك حجة واهية في أكثر الأحوال. وإنما حجتنا هي ما نراه في ابن أبي طالب من تماسك تام في الشخصية يجعل منه مفكرًا ذا أصول متلازمة وفروع منظمة الاتجاه، وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع في هذا التمازج المطلق بين تعاليمه وعهوده وخطبه ووصاياه، وبين مسلكه مع نفسه ومع الناس. كان يحيا فكرته بقلبه وبدمه قبل أن تصبح فكرة مصوغة بألفاظ وتعابير، فإذا هي تنبثق عن حياته ومسلكه انبثاقًا طبيعيًّا صافيًا لا يد فيه للصنعة، ولا عمل فيه لحمل النفس على ما لا تطيق، وهذه الحقيقة عنه هي التي تبعد الجفاف عن تعاليمه ودستوره، وتكسبها حرارة وحنانًا حتى لكأنها حديث الأب إلى ابنه أو مناجاة المرء لنفسه، فهي بذلك ليست من صنع العقل وحده، بل يشترك فيه إبداعها العقل والخيال والعاطفة الدافئة الحنون، وتلك من آيات ابن أبي طالب".
 
وبعد أن تتبع جرداق المبادئ السبعة عشر لوثيقة حقوق الإنسان الفرنسية، مُظهراً كلٌّاً منها فيما لدى الإمام من آثار توافقها في المعنى، ومن نصوص ترادفها أو تماشيها في الغاية، خلص جرداق إلى نتيجة مهمة قررها قائلًا: "وأخالك قد أدركت ووعيت أن هذه المبادئ التي عاشها أدباء الإنسانية، ولم تأخذ صيغتها القريبة من الكمال إلَّا في عقول أدباء الثورة الكبرى وفي قلوبهم، إنما هي مبادئ فكّر بها منذ أربعة عشر قرنًا، عملاق العقل العربي علي بن أبي طالب، وصاغها صريحة تعلن عن ذاتها جوهرًا في كل حين، ونصًّا وجوهرًا في أكثر الأحيان! وإن في هذا الواقع ما يبرز لنا قيمة ابن أبي طالب بمقياس العظمة الحقيقية، عظمة الإنسان الذي يفكر عميقًا، ويعمل صادقًا، ويحيا خيِّراً ويموت شهيدًا، ويترك في كل حالاته آثارًا إن إجريتها على محك العقل شمخت وتعالت، وإن أجريت عليها مقاييس الحنان الإنساني انتفضت وعاشت".
 
بعد تلك المحطة التي ترتد إلى أخريات القرن الثامن عشر الميلادي، تحول جرداق إلى المحطة الأهم والأحدث زمنا، مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في أخريات النصف الأول من القرن العشرين، الذي ثبّته جرداق في هذا الجزء من كتابه، دافعًا القارئ ليرى بنفسه إن كان هنالك من فرق أساسي بين المذهب العلوي في الحقوق العامة وهذه الوثيقة، ثم ليدرك أين يستقر هذا الفرق وما هي أسبابه!
 
ويرى جرداق أنه يصعب على المرء أن يجد اختلافًا بين المذهب العلوي وهذه الوثيقة الدولية من حيث الروح العامة، أما الفوارق في الفروع ثم في الصيغ فهي محتومة في نظره مع اختلاف الزمان، أما الأسس فليس من أساس في هذه الوثيقة إلَّا وتجد له مثيلًا في دستور ابن أبي طالب، بل تجد في دستوره ما يعلو ويزيد عليها.
 
الفارق الرئيسي في نظر جرداق إنما يتعلّق في جهة الواضعين، ويتلخّص عنده في هي نقاطٍ أربع:
 
أولًا: أنّ الوثيقة الدوليّة لإعلان حقوق الإنسان وضعها ألوف المفكرين الذين ينتمون لمعظم دول الأرض، أو لها جميعا، ويمثّلون مختلف الثقافات الإنسانيّة، فيما وضع الدستور العلوي عبقري واحد هو علي بن أبي طالب.
 
ثانيًا: أن عليًّا يسبق واضعي هذه الوثيقة ببضعة عشر قرنًا.
 
ثالثًا: أن واضعي هذه الوثيقة، أو جامعي شروطها قد ملؤوا الدنيا عجيجًا فارغًا حول ما صنعوا وما يصنعون، وأكثروا من الدعاية لأنفسهم على صورة ينفر منها الصدق والذوق جميعًا، وأزعجوا الإنسان بمظاهر غرورهم وما إليه، وحمّلوه ألف منة وألف حمل ثقيل. فيما تواضع ابن أبي طالب للناس ورب العالمين، فلم يستعلِ، ولم يستكبر بل رجا الله والنّاس في أن يغفروا له ما عمل، وما لم يعمل!
 
رابعًا: أن معظم هذه الدول المتحدة التي أسهمت في وضع وثيقة حقوق الإنسان، واعترفت بها، هي التي تسلب الإنسان حقوقه، فينتشر جنودها في كل ميدان تمزيقًا لهذه الوثيقة وهدرًا لهذه الحقوق، فيما مزّق ابن أبي طالب صور الاستبداد والاستئثار حيثما حطّت له قدم، وحيثما سُمع له قول، وحيثما أشرق سيفه مع نور الشمس، وسوَّى بها الأرض ومشّى عليها الأقدام، ثم قضى شهيد الدفاع عن حقوق الأفراد والجماعات بعد أن استشهد في حياته ألف مرة!
 
وما إن أكمل جرداق هذه المقابلة أو المقارنة بين المذهب العلوي في الحقوق، وبين مبادئ الوثيقتين الفرنسية الدولية لحقوق الإنسان، حتى بدا له التنبيه بأن أصالة النظر، والتفكير عند الإمام لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تجاوزت إلى ما هو أبعد من تلك الوثيقتين، فبحسب قوله: «لا بد أن نذكّر القارئ العربي بأن عملاق تاريخنا لم تقف به أصالته الأصيلة في النظر والتفكير عند هذا الحد الذي صوّرناه، بل تجاوزت به إلى ما هو أبعد من هاتين الوثيقتين، من تقرير حقائق اجتماعية ظل المفكّرون بعيدين عن إدراكها حتى أواسط القرن التاسع عشر، أو قل حتى أوائل القرن العشرين، كما ظل كثير من البشر بعيدين عن أن ينظروا فيها كحقائق صحيحة حتى يومنا هذا».
 
ثالثًا- الإمام وسقراط:
لعل الأرجح في هذه المقارنة بين الإمام (عليه السلام) وسقراط، أنها الأولى من نوعها في تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر، ولعلّها الأولى كذلك في تاريخ الأدب الإنساني الحديث عامّة، وإن لم تكن الأولى فهي من أنضج المقارنات وأعمقها.
 
قد لا تثير هذه المقارنة دهشة العرب والشرقيين أو تلفت انتباههم كثيرًا، وهم الذين لا يثير سقراط دهشتهم عادة، لكنها تثير دهشة الغربيين وتلفت انتباههم كثيرًا فهم الذين يثير سقراط دهشتهم عادة، وقد تدفعهم مثل هذه المقارنة لطرح تساؤل غريب عليهم حول من هو: علي بن أبي طالب الذي وضعته هذه المقارنة إلى صف سقراط الحكيم؟
 
وليس من السهولة على ما يبدو التنبّه لمثل هذه المقارنة، كما ليس من السهولة كذلك الإقدام عليها؛ لأن من يعرف عليًّا قد لا يعرف سقراطَ بالقدر الكافي، ومن يعرف سقراطَ قد لا يعرف عليًّا بالقدر الكافي، ومن يعرفهما معًا قد لا يجد رابطًا يجمع بينهما، فأين عالم عليّ من عالم سقراط! فلا الدين جامع بينهما، ولا الزمان ولا المكان، وكل واحد منهما له سيرته الفارقة والمغايرة، وإن جمعت بينهما الشّهادة، فعليّ شهيد الدين، وسقراط شهيد الفلسفة.
 
أما جرداق فقد تنبّه لهذه المقارنة بذكائه وفطنته؛ لأنه أراد أن ينقل الإمام إلى ساحة الفكر الإنساني، دافعًا بهذا الفكر للاقتراب من عالم الإمام صاحب العبقرية الخلّاقة، ومعرّفًا له بعظيم يثير الدهشة بحكمته كما أثار سقراط دهشة العالم بحكمته، وكأن لسان حاله مخاطبًا أصحاب هذا الفكر، عليكم أن تتعرفوا على عليّ حكيم الكوفة كما تعرفتم من قبل على سقراط حكيم أثينا، وإذا كان لديكم سقراط العظيم في الغرب، فلدينا عليّ العظيم في الشرق! وكل عظيم في نظر جرداق ليس خاصًّا بقومه ولا بأمته ولا بزمانه ومكانه، وإنما هو للإنسانية كافّة، وهكذا هو عليّ الإمام!
 
لم يذكر جرداق أنه أول من أقدم على هذه المقارنة بين عظيم الكوفة وعظيم أثينا حسب وصفه، لكنه لم يذكر أحدًا سبقه إليها، ولو كان هناك من سبقه فعلًا لأشار إليه، وظهر عليه أنه تعامل مع هذه المقارنة كما لو أنه أول من طرقها وأول من تنبّه إليها، ودل على ذلك التساؤل الذي طرحه في مفتتح الحديث عن هذه المقارنة قائلًا: "قد يتساءل المرء ومن حقه أن يتساءل، لماذا نتحدث عن سقراط، ونحن نسوق الكلام على ابن أبي طالب، وما عاصر سقراط عليًّا، وما كان عربيًّا، ولا مسلمًا أو مسيحيًّا، بل تقدمه في الزّمان وكان إغريقيًّا وثنيًّا؟".
 
من جهته يرى جرداق أنه خاض في هذا الحديث عمدًا، لإظهار أمر لم نتعود عليه كون أن الحقيقة واحدة، وحسب قوله: «إنا عمدنا إلى هذا الحديث عمدًا؛ لأن سقراط لم يعاصر عليًّا ولم يكن عربيًّا ولا مسلمًا أو مسيحيًّا! وما ذاك إلَّا لإظهار أمر لم نتعود بعد أن نتمرس به كثيرًا وهو أن الحقيقة واحدة، وأنها لا تدنو منا ولا تبعد عنا بمقاييس العصور والجنسيات والأديان، وعلى ذلك يكون سقراط العظيم أخًا لعلي العظيم بما يلفُّ كل عصر وكل جنسية وكل دين، ألا وهو الإنسانية المؤمنة بالإنسان المبدع، وقيم الحياة الثابتة، وخير الوجود الشامل... وإن عليًّا وسقراط وإن باعدت بينهما ظروف ومناسبات وأزمان، لتجمع بينهما آفاق الكاملين من أبناء آدم وحواء، أولئك الذين ما عملوا عملًا إلَّا رأينا فيه صورة الإنسان المتفوّق العظيم في كل أرض، وما قالوا قولًا إلَّا أصغينا فيه إلى ضمير الإنسان المتحد بعدالة الوجود وقيم الحياة».
 
وعلى طريقة الفارابي في الجمع بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، حاول جرداق الجمع بين حكيم الكوفة وحكيم أثينا، استنادًا إلى اتفاق وجده في حكمتهما، ناظرًا إلى أن الخطوط العامة لفلسفة سقراط مبنيّة على الأصل الأول في فلسفته، ويعني به قول سقراط: "اعرف نفسك بنفسك"، أمام هذا الأصل الأول تساءل جرداق: هل نجد مثل هذا الأساس في أعماق الحكمة العلويّة، وفي روح التعاليم التي نشرها علي بن أبي طالب؟ ثم هل يتفق الحكيمان في التفاصيل الأخلاقية أم يختلفان؟
 
من دون مبالغة، وبعيدًا عن إنزال الأمور في غير منازلها، يرى جرداق أن "الأساس الأصل في فلسفة سقراط ومذهبه إنما عرفه عليّ بن أبي طالب معرفة لا تقلّ خطورة في نتائجها عنده، عمَّا هي عليه عند حكيم الأغارقة، وقد يحسب أننا نبالغ أو ننزل الأمور غير منازلها إذا قلنا: إن هذه النتائج كانت واحدة عند الحكيمين في معنى الأخلاق، مع فارق واحد في شكل المنهج الذي ارتضاه لنفسه كل منهما لا في جوهره وغايته". 
وقد وجد جرداق أن قول سقراط المؤسس لفلسفته: "اعرف نفسك بنفسك"، يقابله ويوافقه قول الإمام: "حاسب نفسك بنفسك"، مضيفًا أنّ ما قصده الإمام في هذا القول يطابق ما قصده سقراط في قوله، ودلّ على ذلك -في نظره- قول كثير أطلقه الإمام يتصل بقول سقراط مبنى ومعنى، مع إشارات صريحة إلى النتائج العملية التي تترتب على مضمونها، ويرى جرداق أنّ "هذه الإشارات الصريحة إن لم يتّبع صاحبها خطّة التدرج والتنظيم التي اتّبعها حكيم الأغارقة، لأعذار مقبولة، فإنّ فيها معناها وروحها وغايتها جميعًا".
 
 
 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى