قالوا في علي (ع) ج9

2020.08.12 - 04:20
Facebook Share
طباعة

 7. الشرقاوي والأمام علي:
عرّف الشرقاوي كتابه (علي إمام المتقين) إلى القراء بصورة متدرجة، ومتوالية، بنشره في حلقات أسبوعية في صحيفة الأهرام المصرية، حصل ذلك بعد انضمامه إليها كاتبًا ملتزمًا بمقالة مطوّلة تغطي صفحة كاملة، كانت تنشر يوم الأربعاء من كل أسبوع في منتصف ثمانينات القرن العشرين.
ونقل الكاتب المصري "محمد شمروخ" أن حلقات الشرقاوي في الأهرام لقيت ذيوعًا عظيمًا بين القراء الذين كانوا يحجزون نسخهم لدى الباعة، ليطالعوا بشغف ما يسطّره الشرقاوي، أما حلقاته عن الإمام علي فكان يتابعها القراء متابعة عشّاق الدراما للمسلسلات التلفزيونية.
وفي وقت لاحق جمع الشرقاوي هذه الحلقات، وأصدرها في كتاب حمل العنوان المذكور، مكوَّنًا من جزأين، أراد في البداية أن يفارق بينهما من جهة العنوان، واعدًا في نهاية الطبعة الأولى من الجزء الأول، أن يكون الجزء الثاني بعنوان (علي إمام المساكين)، لكنه تلقّى نصائح وصفها بالصادقة، فضّلت العدول عن هذا العنوان، خشية تأويله تأويلًا قبيحًا منكرًا، إما عن جهل بمعنى المساكين، وإما عن سوء قصد، وإما عن غفلة الكريم. عندها نظر الشرقاوي في الأمر، مستمعًا للنصح عسى أن يستنقذ كتابه مما قد يثار عليه من غبار ينبغي أن تتنزه عنه حياتنا الفكرية والثقافية، فارتأى البقاء في الجزء الثاني على عنوان الجزء الأول من دون تغيير أو تبديل.
وعن فكرة الكتاب ومنهجه، تحدث الشرقاوي في مفتتح مقدمته قائلًا: "إن هذا الكتاب ليس بحثًا تاريخيًّا، ولا هو كتاب سيرة، ولا هو مفاضلة بين الصحابة، ولا هو دفاع عن حق أحد في الخلافة قبل الآخر، فمن يلتمس في هذا الكتاب شيئًا من ذلك فليعدل عنه إلى غيره".
ما أراده الشرقاوي هو أن يصنع شكلًا فنيًّا يكون أقرب إلى الفن القصصي اعتمادًا على حقائق التاريخ الثابتة، وسعيًا منه لعرض مبادئ الإسلام وقيمه، من خلال تصوير فني للإمام عليّ بوصفه بطلًا خارقًا، ومفكرًا وحكيمًا وعالمًا وزاهدًا، وإنسانًا عظيمًا، كان يواجه بنبالة الفروسية، وبعظمة الزهد، وبسمو الفكر كل ما طالعته به الحياة الجديدة من أطماع وجحود ودسائس وحيل وأباطيل.
هذا الربط بين قيم الإسلام والإمام علي، أوضحه الشرقاوي في حلقات أسبوعية في صحيفة الأهرام المصرية, قائلًا: "ذلك أن الإمام عليًّا تجسدت فيه أخلاق الإسلام ومثله، فقد تعهده الرسول طفلًا، وربّاه صبيًّا، وثقفه فتى، وقال عنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها، ثم إن عليًّا قد كرَّم الله وجهه لم يسجد لغير الله تعالى، وما دخل قلبه منذ الطفولة شيء غير الإسلام، ثم كان هو المجاهد العظيم في سبيل الله، وما صارع أحدًا إلَّا صرعه، وقد علم الصحابة (رضي الله عنهم)، مكانة علي عند الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وأنهم، ومعهم المسلمون في كل مكان وزمان ليقولون في كل صلاة: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد".
ما بين الجزء الأول والجزء الثاني، أشار الشرقاوي إلى مفارقة لها علاقة بالأقوال والتوثيقات، هي الوحيدة التي تقصد لفت الانتباه إليها بنوع من الاهتمام، وقد حددها قائلًا: "ثم إني في هذا الجزء الثاني من كتاب علي إمام المتقين، قد خرجت عمَّا ألفته من قبل كلما رسمت صورة قلمية فنية من تراثنا الجليل معتمدة على الحقائق الثابتة في التاريخ، خرجت في هذا الكتاب عمَّا ألفته وعمَّا تعوده القراء مني، ذلك أني أوردت من الوقائع والأقوال ما قد يصدم بعض العقول، فأثبت أوثق المراجع من كتب أئمة أهل السنة، وعذري في ذلك أن من الناس من تحداني أن أذكر المراجع التي تثبت ما لم يقبله لأنه في الحق يناقض مصالحه! ثم لأن من الناس من يتهم بدلًا من أن يفكر ويبحث ويتعلم، ومن الناس من يجادل بغير علم ولا هدى ولا سراج منير".
سيرًا على الطريقة المتبعة، سوف نقتبس من الشرقاوي بعض نظراته عن الإمام، وما دوّن حوله من انطباعات تواكب سيرته الطاهرة، من هذه النظرات والانطباعات ما تعلق بنشأة الإمام، إذ يرى الشرقاوي أن عليًّا لم يكن يحنِ وجهه لصنم أو وثن قط، فقد كرم الله وجهه، فلم يحنه لغير الله تعالى، وانفرد بهذه الخصلة إذ كان أول من أسلم من الذكور، وأول من صلى منهم خلف رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)... ولأنه أسلم وهو صبي لم يبلغ الحلم، ولأنه لزم الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) فقد كان يشعر إلى أغوار قلبه بكرامة الإنسان الذي علا على الشهوات، والتزم مكارم الأخلاق... وَلَكَم عفا عمَّن ظلمه، ووصل من قطعه، وأعطى من حرمه، وَلَكَم كظم من غيظ، وَلَكَم ناضل لكي يوفي الأُجراء أجورهم، قبل أن يجفَّ عرقهم، وواجه بكل هذه الفضائل التي تعلمها من النبي عليه الصلاة والسلام عصرًا شرسًا تنهار فيه قيم لتسود قيم جديدة.
من نظرات الشرقاوي وانطباعاته ما تعلق بزهد الإمام، إذ يرى قائلًا: "وما كان زهد علي في الدنيا زهد هارب منها، ولكنه زهد المنشغل عن إسعاد نفسه بمتاعها إلى إسعاد الآخرين، من أجل ذلك أحب من اللباس أخشنه، وهو الصوف، وإنه في أغوار نفسه ليشعر بالرضا كلما أمكنه أن يسد حاجة لمحتاج، ولو بكل ما عنده، واثقًا في أن الله سيعوضه خيرًا، فما هو زهد العازف عن الحياة ولكنها تقوى العارف بالله".
من نظرات الشرقاوي وانطباعاته ما تعلق برعاية الإمام إلى المحتاجين، إذ يرى قائلًا: "وما كان علي لينتظر حتى يسأله سائل، بل كان يبحث هو نفسه عن صاحب الحاجة، والمسكين واليتيم والفقير والمحروم، يمضي إليهم هو ويعطيهم من ماله ما يعتقد أنه حق لهم معلوم، وكان يقول: السخاء ما كان ابتداء أما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم –فرار من الندم-... ولشدَّما كان يرضى إذ يسعد الآخرين، وكان عند ربه مرضيًّا".
من هذه النظرات والانطباعات ما تعلق بذكاء الإمام، إذ يرى الشرقاوي قائلًا: "وكان علي يملك هذا الذكاء اللمّاح النفاذ الذي يمكنه من استقراء أعماق القلوب، وقراءة صفحات الوجوه، وتقصّي فلتات الألسنة، وكان هذا الذكاء -مع علمه الغزير العميق- أداته في الاجتهاد والفتيا والقضاء، من أجل ذلك كان لا يحكم بظاهر الأشياء ولا ينظر لها، وإنما يتحرى ما وراء الظاهر، ويعمد إلى جوهر الحقيقة نفسها، وكم ثبت له أن الباطن يخالف الظاهر، وأن من الظواهر ما يخدع".
من نظرات الشرقاوي وانطباعاته أيضاً، ما تعلق بحضّ الإمام على التعقل والتفكر، إذ يرى قائلًا: "وكان من هم الإمام أن يحضّ الناس على التفكير والتدبر، وعلى ألَّا يطيعوا بلا فهم كالأنعام، وألَّا يخرّوا على آيات الله إذا ذكّروا بها صمًّا وعميانًا، وإلَّا كانوا شر الدواب، إن الله خلق لهم الحواس والمشاعر والعقل ليروا ويسمعوا ويتدبروا، فيعرفوا الحسن والقبيح بذاته وبالعقل، وهو هكذا يعرف قبل أن يحدده الشرع، فالإمام همه أن يرتفع بمستوى العقل والإرادة في الإنسان".
يضاف إلى هذه النظرات والانطباعات، ما أشار إليه الشرقاوي في خاتمة الكتاب متحدثًا عن الإمام بعد شهادته قائلًا: «وهكذا ووري التراب جسده النبيل، جسد رجل لم تعرف الإنسانية حاكمًا ابتلي بمثل ما ابتلي به من فتن، على الرغم من حرصه على إسعاد الآخرين، وحماية العدل، وإقامة الحق، ودفع الباطل! قُبض الشهيد، واستقر في وعي الزمن أنه كلما قيلت كلمة الإمام فهو الإمام علي، على كثرة الأئمة في الإسلام! ذلك أن ما امتلكه من علم وفقه في الدين، وما أوتي من الحكمة لم يتوفر قط لفقيه أو عالم، قُبض الشهيد الرائع البطولة، الأسطوري، المثالي، واستقر في ضمير الزمن، أنه كلما نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب فهو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين... ذلك أن عليًّا اجتمع له من عناصر القدوة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات القيادة ونبالتها وشرفها ما لم يجتمع قط لحاكم، وهكذا كان فريدًا حقًّا، عالمًا وحاكمًا! فسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيًّا، وسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته منارات إشعاع ومنابع حكمة، ومثار عزائم، وعدّة للمتقين والمساكين بعد كتاب الله والأحاديث النبوية الشريفة، وسيظل القلب ينبض بما قال، وتشرق به النفس، ويزهو به العقل". إلى أن ختم الشرقاوي نظراته وانطباعاته في آخر سطور الكتاب قائلًا: "فقضى ولم يخلّف تراثًا غير الحكمة والقدوة الحسنة، وما مات أحد من رعيته إلَّا خلف من المال أكثر مما ترك الإمام، عاش يناضل دفاعًا عن الشريعة والعدل والحق والمودة والإخاء والسلام والمساواة بين الناس فسلام عليه".

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى