قالوا في علي (ع) ج8

2020.08.12 - 04:19
Facebook Share
طباعة

 6. طه حسين والإمام علي:
افتتح الدكتور طه حسين كتابه (علي وبنوه) من دون الإشارة إلى طبيعة منهجه، لكونه أشار إليه في كتابه السابق الذي مثّل الجزء الأول من كتاب (الفتنة الكبرى)، وحمل عنوان (عثمان)، وجاء هذا الكتاب متممًا له، ومتصلًا به، خاصًّا الحديث عن الإمام علي وبنيه.
في الجزء الأول، أفصح طه حسين بوضوح كبير عن منهجه، معلنًا تمسكه الصارم بهذا المنهج، متحريًا الصواب مستطاع، ومتجردًا من نزعات العواطف والأهواء، حاملًا نفسه على الإنصاف، مفضلًا الحياد بلا مشايعة لأحد. مباشرة وبلا مقدمات، ومن السطر الأول ولج طه حسين في الحديث عن موقفه وطريقته وما يريد الالتزام به، والسير عليه، قائلًا: "هذا حديث أريد أن أخلصه للحق ما وسعني إخلاصه للحق وحده، وأن أتحرى فيه الصواب ما استطعت إلى تحري الصواب سبيلًا، وأن أحمل نفسي فيه على الإنصاف لا أحيد عنه، ولا أمالئ فيه حزبًا من أحزاب المسلمين على حزب، وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها".
بخلاف العقاد ومنهجه النفسي، اختار طه حسين المنهج التاريخي، متقمصًا نظرة المؤرخ، متقصيًا الوقائع، متفحصًا الأخبار، مازجًا بين السرد والتحليل، وبين التوثيق والنقد، مناقشًا الأقوال ومجادلًا، معلنًا موقفه بلا خشية وبلا مواربة، مقدمًا نفسه بوصفه صاحب رأي في دراسة التاريخ الإسلامي، متحررًا من الضغوط، متعاليًا على الحساسيات، منفكًا من الإكراهات، واثقًا بنفسه ثقته المعهودة بذاتيته.
ليس من غرضنا تتبع الحوادث التاريخية التي سردها بطريقته طه حسين لأنها لا حصر لها، لكننا سوف نتتبع نظراته المتعددة حول الإمام، وما سجل من انطباعات عنه، على الطريقة التي سلكناها من قبل مع العقاد.
من هذه النظرات والانطباعات ما تعلق بالسيرة العامة للإمام، فقد تحدث عنه طه حسين قائلًا: "وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالكتاب والسنة، واستقامة رأيه في كل ما عرض من المشكلات... وقد عاش علي قبل الفتوح كما عاش بعد الفتوح، عيشة هي إلى الخشونة والشظف أقرب منها إلى الرقة واللين، فلم يتّجر ولم يتّسع، وإنما اقتصر على عطائه بعيش منه ويرزق أهله... ولما مات لم تحصَ تركته بالألوف، فضلًا عن عشراتها، أومئاتها، أوالملايين، وإنما كانت تركته كما قال الحسن ابنه في خطبة له: سبعمائة درهم".
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته، ما أشار إليه حين اضطربت الأحوال بعد مقتل عثمان، مميزًا الحال الذي كان عليه الإمام، قائلًا: "أمام هذه الأمور العظام، وفي قلب هذه الفتنة المظلمة الغليظة، وجد عليّ نفسه كأحسن ما يجد الرجل نفسه، صدق إيمان بالله، ونصحًا للدين، وقيامًا بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يدهن من أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحًا أو إخفاقًا، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتًا، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضا ضميره ورضا الله".
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته كذلك، ما أشار إليه حين تولى الإمام الخلافة بوصفه أجدر الناس إليها، قائلًا: "فقد كان خليفتهم الجديد، أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنينة، وضمائرهم رضا، ونفوسهم أملًا، فهو ابن عم النبي، وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلّى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يظهر دعوته ويصدع بأمر الله... وأخذ النبي عليًّا فكفله وقام على تنشئته وتربيته، فلما آثره الله بالنبوة كان علي في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلَّا قليلًا، فنستطيع أن نقول: إنه نشأ مع الإسلام، وكان النبي يحبه أشد الحب، ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة، فآخى النبي بينه وبين نفسه، ثم زوّجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبي يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»، فلما أصبح دفع الراية إلى علي، وقال النبي له حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي»، وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه".
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته أيضًا، ما أشار إليه حين تحدث عن عناية الإمام بوعظ المسلمين وتعليمهم، قائلًا: "وكان يعظهم جالسًا على المنبر أو قائمًا، وكان يجلس لهم في المسجد فيسألهم عن أمورهم، ويجيب من سأله منهم عمَّا يهمه من أمر دينه أو أمر دنياه، ثم لم يكن يعظهم ويعلّمهم بما كان يقول لهم حين يخطبهم أو يحاورهم فحسب، وإنما كان يعلّمهم ويعظهم بسيرته فيهم، كان لهم إمامًا، وكان لهم معلمًا، وكان لهم قدوة وأسوة... وكان يخالطهم حين كانوا يضطربون في حياتهم، فكان يمشي في الأسواق ويأمر الناس بتقوى الله ويذكّرهم الحساب والمعاد".
ومن نظرات طه حسين وانطباعاته، ما أشار إليه متحدثًا عن المساواة بين الناس في سيرة الإمام، قائلًا: "وكان شديد الحرص على أن يحقّق المساواة بين الناس في قوله وعمله وفي وجهه، وفي قسمته لما كان يقسم فيهم من المال، بل كان يحرص على هذه المساواة حين يعطي الناس إذا سألوه. جاءته امرأتان ذات يوم تسألانه وتبيّنان فقرهما، فعرف لهما حقهما، وأمر من اشترى لهما ثيابًا وطعامًا وأعطاهما مالًا، ولكن إحداهما سألته أن يفضّلها على صاحبتها لأنها امرأة من العرب وصاحبتها من الموالي، فأخذ شيئًا من تراب فنظر فيه ثم قال: ما أعلم أن الله فضل أحدًا من الناس على أحد إلَّا بالطاعة والتقوى".
يضاف إلى هذه النظرات والانطباعات، ما أشار إليه طه حسين متحدثًا عن ترفّع الإمام وعدم استباحته للمكر والدهاء، قائلًا: "لم يكن علي يستبيح لنفسه مكرًا ولا كيدًا ولا دهاء، كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله، وكان يحتمل الحق مهما تثقل مؤونته، لا يعطي في غير موضع للعطاء، ولا يشتري الطاعة بالمال، ولا يحب أن يقيم أمر المسلمين على الرشوة، ولو شاء علي لمكر وكاد، ولكنه آثر دينه، وأبى إلَّا أن يمضي في طريقه إلى مُثله العليا من الصراحة والحق والإخلاص والنصح لله والمسلمين، عن رضا واستقامة لا عن كيد والتواء".

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى