وصية الامام علي (ع) لولده الحسن

2020.07.08 - 03:48
Facebook Share
طباعة

بسم الله الرحمن الرحیم
« هذا ما أوصى به علی بن أبی طالب ، أوصى أنّه یشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، صَلَّى ٱللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، ثمّ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ »
 
فبعد أن نفهم النقاط الأربعة السالفة الذكر نقول : أنّ الإمام وفي هذا المقطع يحاول أن يؤكد ويكشف عن حاله وما عليه حقيقته (عليه السلام) كما يراها هو ، و دأب على تهذيبها ، ليعلّمنا بعد ذلك ، ما يجب أن تكون عليه سريرة الإنسان الذي يسعى لنيل الكمال البشري والقرب الإلهي .
 
وكذلك يمكننا أن نفهم أيضًا ، أنّ قوام إنسانية الإمام (عليه السلام) التي عرف بها وكشفتها سيرته ، تَتَقَوَّمُ بتقبّلها لحقيقة التوحيد التي تدلّل عليها عبارة « لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ »
 
وبالتبع لذلك يشير إلى عنصر ثانٍ أيضا ، من خلال قوله « وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ » وهو الإقرار بعبودية ثم نبوّة صاحب الرسالة نبيّ الله محمد (صَلَّى ٱللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ).
 
وتقديمه (عليه السلام) للفظة " العَبد " على " الرسالة " حين نسبهما للنبي الأكرم (صَلَّى ٱللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) ، تُظهر لنا أنّ مقام العبودية أعلى مرتبة من أي مقام آخر ، بل يترقى الإمام (عليه السلام) في كشف ما عليه من الإقرار بعبودية ونبوة النبي محمد (صَلَّى ٱللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) ، إلى الإقرار بأنّ ما أرسل به الرسول (صَلَّى ٱللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) هو الهدى و دين الحق الذي سيظهره على باق الأديان ، مهما كانت الظروف التي سيوجدها المشركون لطمس هذا الدين الحق .
 
ثمّ نفهم من قوله « إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ » أنّ كل عبادات الإمام (عليه السلام) ، بل وكل حركة من حركاته في حياته الدنيوية ، وسواء كانت هذه الحركة الصادر منه بإرادة وقصد أو من غير أرادةٍ وقصدٍ ، كانت خالصة لوجهه تعالى ، وليس دافعه في عباداته وحركاته الدخول للجنّة مثلا ، أو الخلاص من النّار ، بل لأن المولى تعالى بعظمته يستحق العبادة والطاعة وأن تكون مقاصد الحركة له فقط .
 
فذكره (عليه السلام) للفظة « الصلاة » فقط دون باقي العبادات ، فيها إشارة إلى كونه استعملها كعنوان عام للتدليل على كل الأعمال العبادية ، وكذلك جعله الصلاة دون غيرها من العبادة عنوانًا عامًا ، فيه اشارة إلى أهمية الصلاة على غيرها من العبادات المعروفة في الإسلام .
 
أمّا لفظة « النسك » فهي تُدلِّلُ بما تفيد من معنٍى عام يساوق معنى الفعل و الحركة، على الفعل أو الحركة الإرادية والمقصودة من فاعلها .
 
أمّا لفظتي « محياي ومماتي » فهما ظاهرتان في الحركة التي تقع للإنسان، دون إرادةٍ وقصدٍ منه ، فالإحياء والإماتة من جهة كونهما فعل، من الأمور الخارجة عن دائرة الإرادة والقصد البشري .
 
يبقى قوله (عليه السلام) « لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ » والذي يكشف لنا عن عظمة ومدى إخلاصه للمولى تعالى في النيّة والقصد، فقد أشار (عليه السلام) من خلال العبارة الآنفة الذكر ، إلى الجهة التي قصد ونوى لها ما تعلّق به من فعل وحركة .
 
بل يؤكد (عليه السلام) على عدم مخالطة وشَرَاكة شيء آخر للمولى تعالى في نيّته وقصده ، من خلال عبارة « لا شَرِيكَ لَهُ »، فنفي الشركة في العبارة غير متعلّقٍ بلفظة الجلالة كما قد يتصور البعض ، بل هو متعلّق بنيّة وقصد الإمام (عليه السلام) ، المقدرة في المعنى العام للعبارة .
 
بمعنى أنّه (عليه السلام) يريد القول أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، كلها خالصة لوجهه تعالى، ولا يخالطه أو يشاركه أمر من الأمور من الأمور الأخرى ، من قبيل الطمع في الجنّة والخوف من النّار ، فكم هي الخلائق التي تجدها تعبد الله خوفًا ونجاةً من النّار ،أو طمعًا ورجاءً في الجنّة .
 
« ثُمَّ إِنِّي أُوصِيكَ يَا حَسَنُ وَ جَمِيعَ وُلْدِي وَ أَهْلَ بَيْتِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اَللَّهِ رَبِّكُمْ «وَ لاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ `وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً وَ لاٰ تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ «صَلاَحُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ اَلصَّلاَةِ وَ اَلصِّيَامِ» وَ إِنَّ اَلْبِغْضَةَ حَالِقَةُ اَلدِّينِ وَ فَسَادُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ وَ «لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ» اُنْظُرُوا ذَوِي أَرْحَامِكُمْ فَصِلُوهُمْ يُهَوِّنِ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ اَلْحِسَابَ »
 
بعد أن حدّد الإمام (عليه السلام) دائرة المخاطبين بهذه الوصية ، بحيث شملت الإنسانية جمعاء ، ولم يستثني منها أحدًا ، مهما كان مذهبه أو دينه أو عرقه أو لونه ، وهذا فيه دلالة على عُمق تَرسخ البُعد الإنساني في داخله (عليه السلام).
 
بعد ذلك ، قدّم التوصية بتقوى الله للإشارة إلى أهمّيتها ، فكيف لا تكون مهمة والعمل أو العبادة بدون التَحَلِّي والتَلَبُّس بتقوى الله لا يحصّل منه العبد إلى التعب والإرهاق، وأيضا يكفي في ظهور أهمّيتها ، أنّها في حقيقتها تستوعب كلُ فعلٍ يصدر من الإنسان سواء كان هذا الفعل نفسي داخلي أو خارجي ، فالعبد المُتَّقي هو ذلك العبد الذي تجده يُوَازِنُ كل حركة من حركاته حتى النفسية منها ، بميزان أوامر المولى تعالى ونواهيه ، وتجده لا يحاول حتى الإقتراب من حدود الله ، لا فقط يعمل على عدم تجاوز حدود الله .
 
ثمّ بعد ذلك أشار من خلال قوله « و لاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » إلى أنّه على العبد المؤمن العمل ومجاهدة النّفس من خلال اتخاذ التقوى سبيلاً، حتى يبلغ لدرجة التسليم للمولى تعالى في كل أموره كبيرها وصغيرها قبل موته ، فالإمام نهى على أن يصل العبد لمرحلة الموت وهو مازال لم يبلغ بعدُ إلى تلك الدرجة العظمى والتي يتصف الواصل إليها بكونه من المسلمين .
 
فالواو من عبارة " وأنتم مسلمون " واو حالية ، بمعنى لا تَمُوتنّ إلاّ وأنتم في حال التسليم ، للمولى تعالى من حولكم وقوتكم لحوله وقوته هو تعالى .
 
ثم قال(عليه السلام) « وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً وَ لاٰ تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ «صَلاَحُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ اَلصَّلاَةِ وَ اَلصِّيَامِ» وَ إِنَّ اَلْبِغْضَةَ حَالِقَةُ اَلدِّينِ وَ فَسَادُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ » .
 
وهنا يُجيب (عليه السلام) السائل الذي يسأل عن الطريق للتَّحلِّي بالتقوى وبلوغ درجة التسليم ، و كذلك الأمان من شِراك الدنيا وما يجري فيها .
 
فيقول الإمام (عليه السلام) ، عليكم بالتمسك بحبل الله عزّ وجل في كل ما تختلفون أو تتحيّرون فيه ، وحبل الله الذي طرفه الأول في الأرض أي عالم الدنيا، والطرف الثاني في السماء أي عالم الغيب، هو كتاب الله عزّ وجل ، كما نصت الكثير من الروايات على ذلك .
 
وكذلك احذروا وتجنّبوا الفرقة من خلال التمسك بحبل الله عز ّ وجل ، فالرسول (صلى الله عليه واله) قال : العمل على إصلاح الروابط التي تربط بين العباد ، حين يقع ما يفسدها ويقطعها أفضل في الحقيقة وبالتالي عند الشارع من كل الصلوات والصيام سواء كانا ندب أو فرض .
 
وهنا يُأَسّس لنا الإمام في هذه الوصية ، أصلاً مهمًا مرتبطًا بعلاقة الفرد بمن حوله من بني الإنسان ، وهو أنّ التكليف الأوّلي الذي تقتضيه القيّم الإيمانية للعبد حين وقوع خلاف بين طرفين ، هو العمل على الإصلاح بين المختلفين لا التحزب لطرفٍ دون الآخر واتباع العصبية القبلية أو المذهبية ، والحمية الجاهلية ، كما نشهده في عصرنا الحاضر الذي تراكمت فيه الفتن والمظالم ، حتى أُنْهِكَتْ القلوب المؤمنة .
 
ثمّ يختم في آخر الفقرة بالإشارة إلى السبب الأساس في تحقّق فساد ذات البَين ، بل والسبب المُهلك لدين العبد ، وهو التباغض والبغضاء ، فكيف لا والبغضاء مميتة لقلب الإنسان وبالتبع لذلك قاتلة لإنسانيته أيضا ، فيصبح صاحبها أقسى من حجر الصوان ، كما نشهده اليوم عند الكثير ممن يتلبسون بدين الله كذبا وزورا ، وسموم بغضائهم تتناثر مع كلماتهم وأفعالهم ، ضد المؤمنين والمسلمين .
 
« اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْأَيْتَامِ فَلاَ تَعِرَّ أَفْوَاهُهُمْ وَ لاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ «مَنْ عَالَ يَتِيماً حَتَّى يَسْتَغْنِيَ أَوْجَبَ اَللَّهُ لَهُ اَلْجَنَّةَ كَمَا أَوْجَبَ لآِكِلِ مَالِ اَلْيَتِيمِ اَلنَّارَ » »
 
إنّ معايشة اليُتم من أكثر العناصر المسبّبة لضعف وانكسار الفرد البشري ، وخاصة على مستوى محتواه الداخلي ، فكيف لا واليَتِيم ومنذ نشأته التي تَتَكَوَّن فيها شخصيته نجده يفتقد لذاك الإنسان الذي يصلح ليكون له سَندًا وحاميًا ووليًا ، بحيث يجبر كسره إن وقع ، ويؤمّن روعته إن خاف ، ويقضي حوائجه إن اعتاز ، بل ويمدّه بعنصر الشعور بأهميّة وجوده في الحياة .
 
ولأجل أنّ اليتيم هو أكثر النّاس حاجة لأخيه الإنسان ، وأنّه اكثر النّاس انكسارا ، نرى الإمام قد بدأ وصيّته به قبل غيره ، وهذا يكشف لنا بوضوح عن معايشة الإمام لما يقوله وينطق به ، بل إنّه (عليه السلام) لم يكتفي بالوصاية باليتيم ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير ، فوصّى بعدم ترك الأيتام حتى يبلغوا درجة الإحساس بالجوع ، ولم يكتفي بالتوصية على سَدِّ جوعتهم ، بل يوصي أيضًا بمتابعتهم والإهتمام بهم ، حتى لا يضيعوا والمؤمنون حاضرين موجودين .
 
وفي الأخير ، يعلّمنا (عليه السلام) ما سمعه وتعلّمه من رسول الله محمد (صلى الله عليه واله) ، حيث أشار إلى أنّ المولى تعالى جعل إعالة اليتيم حتى الغِنَى من القوانين والسّنن الإلهية الثابتة و المُوجِبَة لصاحبها دخول الجنّة ، وبمعنى آخر أنّ من الأمور التي تَضمن للمَرء دخول الجنّة ، أو قل من الأمور التي هي مُوجِبَةٌ لدخول الجنّة ، هي إعالة اليتيم حتى يصل لدرجة الإستغناء عن مُعِيلِه .
 
وكذلك أكل مال اليتيم بغير وجه حق ، هو قانون وسُنّة توجب لصاحبها دخول نار جهنّم ، وهذه يستلزم عدم نَفعِ باقي الأعمال الحسنة حين تحقّق أكل مال اليتيم .
 
« اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْقُرْآنِ فَلاَ يَسْبِقَنَّكُمْ إِلَى اَلْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ.
 
اَللَّهَ اَللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فإنّ النبي صلّى الله علیه وآله أوصى بهم ، وما زال رسول الله صلّى الله علیه وآله یوصي بهم حتى ظننّا أنّه سیورّثهم »
 
أكّد (عليه السلام) على القرآن الكريم ، لأنّه هو المصدر والمرجع الأساس للمعارف الربانية التي تساعد على تنظيم البُعد الإنساني الفردي ، وكذلك تنظيم الوعي الجماعي لبني الإنسان ، ثم نبّه وأكّد أيضا على التسابق في العمل به قبل الغير ، وهذا كناية على عدم التباطئ والتأخير في العمل به .
 
وبعد ذلك رجع للعلاقات البشرية في ما بينهم ، فبدأ يوصي ويؤكد (عليه السلام) على الجار ، تبعا لوصية رسول الله (عليه السلام) على ذلك ،وهذا ثالث حلقة منظمة لحركة المؤمن يحدّدها الإمام (عليه السلام) ، فبعد ذات البين أي الأمّة أو الإنسانية جمعاء ، أكّد على الأيتام ، والآن يوصي بالجار ، بل ينقل لنا لتّدليل على أهية علاقة الجيرة ، أنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) كان يكرّر التوصية بالجار ، حتى ظننّا أنه (صلى الله عليه واله) سوف يجعل للجار حق في الميراث .
 
ولعلّ التأكيد الشديد للرسول (صلى الله عليه واله) وكذلك للإمام علي (عليه السلام) على علاقة الجيرة ، يفهم بوضوح أكثر ، عندما ندرك حقيقة أنّ انهيار البُنَى الفوقية للمجتمع تبدأ أولا : بانهيار العلاقات الأسرية التي هي اللَّبَنَة و الدائرة الأولى في بنية المجتمع ، ثمّ يكتمل الإنهيار التّام بانهيار علاقات .
 
الجيران ، الذين هم الدائرة الثانية بعد الأسرة في تشكيل البنية الإجتماعية لكل قوم وأمّة ، وبناء الهياكل الإجتماعية أيضا ، يبدأ ببناء الأسرة ، ثم المحيط الأوسع منه وهو الجِيرَة
 
« اَللَّهَ اَللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ فَلاَ يَخْلُوَنَّ مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا فَإِنَّ أَدْنَى مَا يَرْجِعُ بِهِ مَنْ أَمَّهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِهِ »
 
بغض النظر عن المنافع الآخروية لزيارة وإلتِفَاف الأمّة حول بيت الله عزّ وجل ، والتي أوضح الإمام (عليه السلام) أقل ما يصيب العبد إذا أَمَّهَا وحط الرحال عندها، وهو أن يغفر الله له ما سبق من ذنوبه .
 
يمكن أيضا أن ندرك المغزى مِنْ حِرْص الإمام (عليه السلام) على شدّ الرحال إلى بيت الله عزّ وجل سواء في موسم الحج أو غيره ، وهذا المغزى نفهمه عندما نعلم أهمّية بيت الله وما تقدّمه من فوائد للأمّة ، فبيت الله هو العنصر الوحيد الذي تجتمع عليه وفيه الأمة المسلمة بمختلف أقوامها ومجتمعاتها ، معنويًا وماديًا ، أمّا معنويا فبما تمثّله من قداسة في نفوس أبناء الأمّة الإسلامية ، وبما تحويه كذلك من شعائر إلهية ،تكون هي عنصر التقاء لأفئدة وقلوب المسلمين جميعا ، أمّا ماديّا فهي النقطة الجغرافية الوحيدة التي لها القدرة على جمع أكثر عدد ممكن من شعوب وأقوام الأمّة الإسلامية الواحدة .
 
وعليه فأهميّة الدور الذي يلعبه بيت الله عزّ وجل ، وخاصة على مستوى بُنْية الأمّة الواحدة ، يكمن في قدرتها على جمع اكثر عدد ممكن من ابناء الأمّة الإسلامية ، وبالتالي فهي تشكل الفضاء الأكبر الذي يتحقق فيه التواصل بين أفراد الأمّة الإسلامية ، وهذا التواصل هو العُنصر الذي يحافظ على بقاء وديمومة بُنَى أي أمّة كانت .
 
« اَللَّهَ فِي اَلصَّلاَةِ فَإِنَّهَا خَيْرُ اَلْعَمَلِ وَ إِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ »
 
نلحظ هنا أن الإمام (عليه السلام) في توصيفه للصلاة عبّر بلفظة " خير " ولم يعبّر بلفظة " أفضل " ، لأنّ لفظة " أفضل " تفيد معنى التراتبية وبالتالي التقدم والـتأخر ، بينما لفظة " خير " لا تفيد هذا المعنى .
 
وعليه فما يمكن أنّ نفهمه في المقام ، هو أنّ الصلاة هي أكثر الأعمال التي فيها الخير لبني الإنسان ، لا هي أفضل الأعمال وأَوْلاَهَا .
 
أمّا التعبير بكون الصلاة عمود الدين ، فلأنّ الصلاة هي أكثر العبادات التي تربط بين العبد وخالقه وهي أكبر قنوات التواصل بين العبد وبارِئِه ـ وبما أنّ الدين بكلّ مسائلة جاء ليربط
العَبد بربّه - لما في ذلك من خير للإنسان - من خلال ما يتضمنه من عبادات وأعمال ، كانت الصلاة وبلحاظ ما تمثله من أداة تواصل بين العبد وربّه ، عمودا تستند عليه باقي مسائل الدين الإسلامي ، كما تستند الخيمة على عمودها الواقع في وسطها .
 
« اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ رَبِّكُمْ.
اَللَّهَ اَللَّهَ فِي صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّ صِيَامَهُ جُنَّةٌ مِنَ اَلنَّارِ.
اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْفُقَرَاءِ وَ اَلْمَسَاكِينِ فَشَارِكُوهُمْ فِي مَعِيشَتِكُمْ »
 
ذكر الإمام (عليه السلام) وأكّد على الزكاة لما تمثّله من دور في حل مشاكل الدولة ، وخاصة المتعلّقة بالطبقات التي تشكو العَوز والحاجة ، وأشار إلى منفعة واحدة من منافعها ، وهي إطفاء غضب المولى تعالى على العبد ، بعد أن يقوم هذا العبد بما يستوجب غضب الله عزّ وجل عليه .
 
ثم وصى بل أكّد على خصوص شهر رمضان ، لا فقط صيام شهر رمضان ، فاستعماله لعبارة " شهر رمضان" بدل " الصيام " الذي هو أبرز مميّزات هذا الشهر الفضيل ، لتدليل على أهميّة شهر رمضان كشهر ، بغض النظر عن لُزُوم صومه .
 
فالراجح هو كونَ شهر رمضان يكتسب أهميته من ليلة القدر وما يحصل فيها من فتح بين عالم الغيب وعالم الدنيا ، ولعلّ المولى أوجب علينا الصيام في شهر رمضان بالخصوص لما في الصيام من تطهير للقلب ، وبالتالي يكون الصيام من العناصر المساعدة على تطهير قلب المؤمن تحضيرا له لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وقد يكون من بينهم شهر رمضان .
 
وبما أنّ الصيام يُطَهِّر القلب ويُهَذِّب النَّفس ، فهو الواقي والساتر الذي يحول بين العبد ونار جهنَّم ، كما أشار لذلك الإمام (عليه السلام) حينما قال : فإنّ صيامه جُنّةٌ من النّار .
 
وفي الأخير وبعد أن أوصانا بالزكاة التي هي من حقّ الفقراء والمساكين ، وبعد أن أوصانا بالصيام ، الذي من أهم أبعاده معايشة معاناة وجوع وعطش الفقراء والمساكين .
 
توجّه (عليه السلام) إلى التوصية بالفقراء والمساكين نفسهم ، ولعلّ تقديمه للزكاة والصوم عن الفقراء والمساكين فيه تمهيد للتوصية بالفقراء والمساكين ، وهذا فيه إشارة إلى أهمية التوصية بالفقراء والمساكين على التوصية بالزكاة والصوم ، وخاصة عندما نعلم أنّه (عليه السلام) كان رؤوفًا وحنونًا ومتواضعًا مع الأيتام والفقراء والمساكين وأصحاب الحاجة من المستضعفين .
 
فقال (عليه السلام) في حقّ الفقراء والمساكين على العباد، أن يتشارك النّاسُ مع الفقراء والمساكين في ما تتقوم به معيشتهم ، ومع التدقيق يظهر لنا أنّه (عليه السلام) استعمل لفظة " المشاركة " التي تفيد معانٍ كثيرة :
منها : أن الشريك هو الذي له ملكية في جزء من الشيء المتشارك فيه .
ومنها : أنّ المال الذي يعطى للفقراء والمساكين ليس تفضلا من صاحبه ولا هو مِنَّةٌ منه ، بل هو حق لهؤلاء الفقراء والمساكين .
ومنها : أنّه على العبد المؤمن ، أنّ يجعل سهمًا من معيشته للفقراء والمساكين ، وأن لا يتهاون في تقديمه لهم ، فهو حق لهم كحق الشريك على الشريك .
 
« اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْجِهَادِ «فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ» فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ رَجُلاَنِ إِمَامٌ هُدًى وَ مُطِيعٌ لَهُ مُقْتَدٍ بِهُدَاهُ »
 
هنا نجد أنّه (عليه السلام) حثّ ووصّى بالجهاد في سبيل المولى تعالى ، وكذلك بيّن المراتب الثلاثة العامة للجهاد ، وهي الجهاد من خلال تقديم المال وكل ما يدخل تحت ملك الفرد ، والجهاد بالنفس وهو أفضل المراتب وأَوْلاَهَا ، والجهاد باللسان وكلمة الحق في وجوه الظالمين والمستكبرين والمفسدين في الأرض .
 
ثمّ بعد ذلك يبيّن لنا مصاديق المجاهدين ، والذين إذا ماقتلوا اعتبروا عند المولى تعالى من الشهداء ، فيحصر المجاهدين في سبيل الله في قسمين ، إمّا أن يكون هذا المجاهد إمام هدى يُقْتَدَى به ، وإمّا أن يكون فردًا مطيعًا ومقتد بإمام هُدى . وغير هذين الصنفين هم مجاهدون في سبيل آخر غير سبيل المولى تعالى .
 
« اَللَّهَ اَللَّهَ فِي ذُرِّيَّةِ نَبِيِّكُمْ فَلاَ تُظْلَمُنَّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى اَلدَّفْعِ عَنْهُمْ »
 
وكم هي الوصايا التي وردت من الرسول (صلى الله عليه واله) حول شأن أهل البيت (عليه السلام) ولزوم نصرتهم ودفع المظالم عنهم ، ولكن أين الأمّة من ذلك ، ولعلّ من أسباب الذلّة والهوان الذي تعيشه الأمّة اليوم ، هو تخليّها عن أبرز تكاليفها التي أوصى بها النبي محمد (صلى الله عليه واله) ، ومنها التمسك والدفاع عن أهل البيت (عليه السلام) .
 
فالإمام (عليه السلام) وفي وصيّته حول ذرّية النبي (صلى الله عليه واله) ، ينهى عن السكوت عن تحقق المظلمة لأهل البيت (عليه السلام) بدون الدفاع عنهم ، ويُقَيّد الدفاع وعدم السكوت بالقدرة على ذلك
 .
« اَللَّهَ اَللَّهَ فِي أَصْحَابِ نَبِيِّكُمُ اَلَّذِينَ لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثاً وَ لَمْ يُؤْوُوا مُحْدِثاً فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَوْصَى بِهِمْ وَ لَعَنَ اَلْمُحْدِثَ مِنْهُمْ وَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَ اَلْمُؤْوِيَ لِلْمُحْدِثِ »
 
لقد أوصى أيضا الإمام بأصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله) الذين لم يحدثوا بعد رسول الله ما يلزم منه غضب المولى تعالى أو لعنته ، وأيضا أوصى بالأصحاب الذين لم يُؤوُوا الذين انقلبوا على أعقابهم بعد رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) .
 
وأوضح أنّ الذين أحدثوا وانقلبوا من الأصحاب بعد أن انتقل الرسول (صلى الله عليه واله) إلى الرفيق الأعلى ، وكذلك الذين آوَوْ المحدثين قد جاؤوا بأمر عظيم و لعنهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
 
اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلنِّسَاءِ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، فإنّ آخر ما تکلّم به نبیکم علیه السلام أن قال : أوصیکم بالضعیفین ، النساء وما ملکت أیمانکم .
 
وأخيرا يلتفت (عليه السلام) إلى الجهة الأضعف في البنية الإجتماعية للإنسان ، ويوصي بها خيرَا ، لما لها من أهميّة ودور حسّاس ، وخاصة في ما يتعلّق ببناء الأجيال التي سيتشكل منها في المستقبل المُجتمع .
 
ففساد اللُّحْمة الأُسَرية ، وبالتالي تدهور العلاقات بين أفراد الأُسرة ، يعود بالأساس إلى المرأة الأم ، التي هي في واقع الأمر عبارة عن العُنصر الذي يجمع ويربط كل أفراد الأسرة الواحدة بعضهم ببعض ، ومتى ما تعرّض هذا العنصر لما هو سلبي، يبدأ العد العكسي لذهاب اللّحمة الأسرية وبالتبع تدهور في العلاقات الأسرية ، التي قد تصل في الأخير إلى درجة الانهيار والتفكك الأسري .
 
ولأجل ما تتصف به المرأة من ضعف إذا ما قرنت بالرجل ، وما تمثّله من أهمية للأسرة والمجتمع ، أوصى بها الإمام(عليه السلام) وقبله الرسول (صلى الله عليه واله)
 
فالمرأة عموما، وبسبب اتصافها بالضعف ، والزوجة خصوصا لها أهمية بالغة في واقع المجتمع ، بل هي ركن أساسي فيه .
 
« اَلصَّلاَة اَلصَّلاَة اَلصَّلاَة ، لاَ تَخَافُنَّ فِي اَللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ يَكْفِيكُمُ اَللَّهُ مَنْ أَرَادَكُمْ وَ بَغَى عَلَيْكُمْ «قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً» كَمَا أَمَرَكُمُ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لاَ تَتْرُكُنَّ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اَللَّهُ اَلْأَمْرَ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ، عَلَيْكُمْ يَا بَنِيَّ بِالتَّوَاصُلِ وَ اَلتَّبَاذُلِ وَ اَلتَّبَارِّ وَ إِيَّاكُمْ وَ اَلتَّقَاطُعَ وَ اَلتَّدَابُرَ وَ اَلتَّفَرُّقَ وَ «تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ» حَفِظَكُمُ اَللَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَ حَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ وَ أَسْتَوْدِعُكُمُ اَللَّهَ وَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ اَلسَّلاَمَ ورحمة الله وبرکاته »
 
ثم أخيرا وبعد التأكيد مجدّدا على الصلاة لما لها من أهمية في عملية التواصل بين العبد وربّه ، يبدأ الإمام (عليه السلام) ، بتوجيه جملة من النصائح والتوجيهات المهمة جدّا في المحافظة على البُنى الجماعية .
 
ومنها : عدم مخافة الملاَمَة من الخَلائق ، وخاصة إذا كان رضى المولى تعالى يكمن في الفعل الملام عليه ، وكذلك عدم الخوف من بغي الباغين نتيجة القيام بما فيه تكليف الله عزّ وجل لأنّ الله هو الكافي والمتكفل للعبد المؤمن الذي يتأذى في سبيل طاعته عزّ وجل ، ثم يقرّر الإمام (عليه السلام) لزوم قول الكلمة الحسنة للنّاس وإن كانوا ممن ظلمونا وآذونا .
 
وفوق كل ذلك ينهى الإمام (عليه السلام) ترك التخلّي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن في ذلك نتيجة حتمية وهو أن يتولى على القوم الذين يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هو أشرهم ، ثم وإن دعوتم الله أن يفرج عنكم من خلال ازالة هؤلاء الأشرار منكم ، لن يستجيب لكم .
 
ومنها : أنّه (عليه السلام) ينصح ويأمر بالتواصل بين العباد ، وكذلك التباذل في المساعدة والعمل على إيجاد الروابط بين العباد ، وترك التقاطع والتدابر بحيث يولّي كل فرد دُبُره إلى أخيه وكذلك التفرقة والتباعد .
 
وأخيرا يأمر بالإجتماع والتعاون على البر والتقوى وينهى عن التعاون عن الإثم والعدوان ، وويختم (عليه السلام) بالتوصية بالتقوى في العمل والحركة ، ثمّ يدعوا لأهل بيته بالحفظ والرعاية.
 

 

 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى